الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بعد خطبتي أصبحت أفكر في شاب أعجبت به في السابق، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في العشرينات من عمري، أوشكت على التخرج في كلية الطب البشري، ومخطوبة منذ فترة لشاب ذي خلق ودين -والحمد لله-.

عائلتي متدينة، وأعيش معهم بسعادة، إلا أني أشعر بالفترة الأخيرة أن وساوس الشيطان تكدر عليّ حياتي!

في أول حياتي الجامعية كنتُ محاطة بصديقات سُوء، فأكثرتُ من الاختلاط والتعارف بين البنات والشبّان في الجامعة، وفي تلك الفترة أُعجبتُ بشخص، وكان بيننا كلام بحكم كثرة الاختلاط، إلا أني بعد فترة تبتُ إلى الله، وابتعدتُ عن الذنوب، وأدركتُ أنها مشاعر طفولية ساذجة، وغيّرتُ محيط صديقاتي بأكمله إلى صديقات صالحات، وأكملتُ سنواتي الجامعية بين دراستي الطبية، والتفاتي للعلوم الشرعية، والتعلُّم عن ديني أكثر، وكانت سنوات شعرتُ فيها فعلاً بنعمة التوبة، وأن العمل الصالح يمحو ويُنسي العمل السيء.

إلا أني بعد خِطبتي، أخذ الشيطان طريقه إليّ، وخطر ببالي ذات مرة الشخص الذي أُعجبتُ به في الماضي، بالرغم من نسياني له طوال السنوات السابقة، إلا أني أحسستُ أن الشيطان يحاول أن يُفسد عليّ الحلال.

أخذ ذلك الشخص يعود إلى خاطري كل يوم وليلة، ليقول لي عقلي: أتذكرين؟ أو: انظري، أنتِ تُفكّرين بشخص من الماضي وأنتِ مخطوبة! أو: كأن الله لم يقبل توبتك، فعاقبك الآن بعدم راحتك بالحلال!

أصبح لا يستقيم لي حال مع خاطبي، وتراودني الأفكار بأن الشخص السابق سيظل يخطر في بالي بعد الزواج، وأني سأكون جالسة مع زوجي وعقلي عند رجل آخر، أو أني قد أُخطئ في يوم من الأيام وأنادي زوجي باسم الشخص الآخر، وينتهي زواجي، (مع العلم أن خاطبي يعرف الشخص السابق، واسمه يمكن تمييزه، ويعرف معرفةً سطحية عن أمر إعجابي السابق، بحكم وجود خاطبي في نفس كليتي وبيئتي، إلا أنه لا يذكر أي شيء عن الموضوع، فقد لاحظ توبتي وابتعادي، وتغير صداقاتي ومحيطي منذ زمن).

هذه الأفكار تقتلني، مع العلم أني لا أفكر بالشخص السابق كإعجاب أو شعور، وإنما مجرد فكرة وجوده في عقلي وتذكري له.

حاولت أن أُلهي عقلي بمشاغل الحياة، أكثرت من دراسة الطب، ولا أكفّ عن سماع الدروس الشرعية، قرأتُ القرآن، ودعوتُ الله، لكن قلبي لا يرتاح تجاه هذا الموضوع، وعقلي لا ينساه!

أشيروا عليّ، جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سائلة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أختي الكريمة، بارك الله فيك، وجعل خطاك في سبيل الخير، وشرح صدرك بالطمأنينة والإيمان.

إن نعمة النشأة في أسرة متدينة مستقرة، ورعاية أهل صالحين، نعمة عظيمة تستحق الحمد والشكر، وكذلك أن يرزقك الله خاطبًا صاحب خلق ودين؛ فهذه من المنح الربانية التي يكرم الله بها عباده الطائعين.

وأول ما ينبغي أن تعلميه: أن ما تعانينه اليوم من خواطر وهواجس متعلقة بالماضي لا يدل بحال على فساد قلبك، ولا على عدم قبول توبتك -عياذًا بالله-، وإنما هو من مكائد الشيطان التي يسعى بها لتكدير صفو المؤمنين، لا سيما عند إقبالهم على الخير، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:6].

فالتوبة النصوح تمحو الذنب، بل تحوله إلى حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، فماضيك قد ستره الله بفضله وغفره برحمته، وما تجدينه من ندم إنما هو في ميزان حسناتك، وليس ضدك.

أما خواطر النفس ووساوسها؛ فإن الله تعالى لا يؤاخذ بها ما لم تتحول إلى قول أو فعل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) متفق عليه. فهي ليست ذنبًا جديدًا ولا رجوعًا إلى الماضي، بل امتحان لصبرك وثباتك على الطاعة.

واعلمي أن كثيرًا من الناس حين يقبلون على مرحلة جديدة في حياتهم -كالزواج مثلاً-، قد ترد عليهم ذكريات قديمة، أو هواجس عابرة؛ وهذا يعد أمرًا طبيعيًا من الناحية النفسية، لكن الخطأ أن يُربط ذلك بعدم القبول أو فساد الحال.

والأفكار المتكررة التي تتطرق إلى ذهنك، يسميها المتخصصون النفسيون بـ الأفكار التسلطية: (Obsessive thoughts)، وهي لا تعكس حقيقتك ولا نيتك، وإنما تنشأ نتيجة القلق من الوقوع فيها، والقاعدة في علاجها: أن تجاهلها هو الأصل، فكلما قاومتها أو جادلتها ازدادت حضورًا، أما إذا تركتها تمر دون فزع أو تحليل، فإنها تضعف مع مرور الوقت حتى تزول.

ولا تسمحي لنفسك أن تُشيّد سيناريوهات وهمية، مثل: "سأنادي زوجي باسم آخر"، أو "سينهار زواجي"، فهذه مجرد أوهام مستقبلية لم تقع، ولن تقع -بإذن الله- ما دام قلبك عامرًا بالإيمان.

خطوات عملية للتغلب على هذه المشكلة:

1. اليقين بقبول التوبة: جددي ثقتك برحمة الله، فقد قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، فالله يغفر الذنوب جميعًا بشرط صدق التوبة وإخلاصها، فكرري دائمًا هذا الدعاء: (اللهم إني تبت توبة نصوحًا فاقبلها مني)، ثم لا تفتحي للشيطان بابًا للوسوسة.

2. الإعراض عن الوسواس: عند ورود الفكرة لا تسترسلي معها، ولا تحاوريها أو تحلليها في حينها، بل اطرحيها جانبًا، ويمكنك لاحقًا -في وقت مناسب- تدوينها ثم تفنيدها لتدركي عدم منطقيتها، فيخفّ أثرها ويتناقص تكرارها، واعملي بوصية الله تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف:200]، وحاولي شغل أوقات فراغك بما ينفعك من علم أو عمل أو عبادة.

3. الاستعداد للحياة الزوجية: فخاطبك -كما ذكرت- رجل صاحب دين وخلق، وقد عاين بنفسه تغيرك وتوبتك، فاطمئني أنه سيكون سندًا لك في الطاعة، لا عائقًا، وركّزي على بناء مشروعكما المشترك لا على أطياف الماضي.

4. طلب العون المتخصص عند الحاجة: إن غلبت عليك الوساوس حتى عطلت حياتك أو دراستك، فاستعانة بطبيب أو معالج نفسي موثوق لا حرج فيها، والعلاج السلوكي نافع جدًّا في مثل حالتك.

5. المداومة على الذكر والدعاء: أكثري من قول هذا الذكر: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، فهي من أعظم الأذكار لطرد وساوس الشيطان، وأكثري من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كلما خطرت لك الوساوس.

6. تحقيق التوازن بين الدين والدنيا: لا تفرطي في جلد نفسك ولومها؛ فذلك يغذي الوساوس، اجتهدي في دراستك الطبية، وابذلي جهدك لتكوني طبيبة رحيمة تنفعين الناس، وتلذذي بمواسم الطاعة، وأقبلي على حياتك المستقبلية بطمأنينة، مستثمرة ما أنعم الله به عليك من نعم عظيمة.

كلمة طمأنة أخيرة إليك -أيتها الأخت المباركة-: اعلمي أنه لا سلطان للشيطان أن يُفسد زواجًا بُني على الطهر والدين إلا إذا استرسلت معه، فثقي أن الماضي قد انتهى، وأن الله أكرمك بالتوبة النصوح، وأن مستقبلك أجمل -بإذنه تعالى-، وما يطرأ على ذهنك اليوم ليس إلا "سحابة صيف" سرعان ما تنقشع إذا ملأت قلبك بذكر الله وحسن الظن به.

نسأل الله أن يتمم زواجك على خير، وأن يرزقك السعادة مع زوجك، ويشرح صدرك بالسكينة والرضا، ويعيذك من همزات الشياطين ومن حضورهم.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً