[ ص: 601 ] 111 - فصل
في
nindex.php?page=treesubj&link=4241حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم .
أما ما وقفوه هم فينظر فيه ، فإن أوقفوه على معين أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة ، أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم ، فهذا الوقف صحيح ، حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات ، لكن إن شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر ، فإن أسلموا لم يستحقوا شيئا لم يصح هذا الشرط ، ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة ، فإنه مناقض لدين الإسلام ، مضاد لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أبلغ في ذلك من أن يقف على أولاده ما داموا ساعين في الأرض بالفساد مرتكبين لمعاصي الله ، فمن تاب منهم أخرج من الوقف ولم يستحق منه شيئا ، وهذا لا يجيزه مسلم .
فإن قيل : فما تقولون لو وقفوا على مساكين أهل الذمة ، هل يستحقونه دون مساكين المسلمين أو يستحقه مساكين المسلمين دونهم أو يشتركون فيه ؟
قيل : لا ريب أن
nindex.php?page=treesubj&link=23500الصدقة جائزة على مساكين أهل الذمة ، والوقف صدقة ، فهاهنا وصفان : وصف يعتبر وهو المسكنة ، ووصف ملغى في الصدقة ، والوقف وهو الكفر ، فيجوز الدفع إليهم من الوقف بوصف
[ ص: 602 ] المسكنة لا بوصف الكفر ، فوصف الكفر ليس بمانع من الدفع إليهم ، ولا هو شرط في الدفع كما يظنه الغالط أقبح الغلط وأفحشه ، وحينئذ فيجوز الدفع إليه بمسكنته وإن أسلم فهو أولى بالاستحقاق فالفرق بين أن يكون الكفر جهة وموجبا ، وبين ألا يكون مانعا ، فجعل الكفر جهة موجبا للاستحقاق مضاد لدين الله تعالى وحكمه ، وكونه غير مانع موافق لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .
فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم ، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة ، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها ، وأنه لم ينه عن ذلك بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه ، وكتبه على كل شيء ، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة ، ولا ريب أن جعل الكفر بالله وتكذيب رسوله موجبا وشرطا في الاستحقاق من أعظم موالاة الكفار المنهي عنها فلا يصح من المسلم ولا يجوز للحاكم تنفيذه من أوقاف الكفار ، فأما إذا وقفوا ذلك فيما بينهم ولم يتحاكموا إلينا ولا استفتونا عن حكمه لم يتعرض لهم فيه ، وحكمه حكم عقودهم وأنكحتهم الفاسدة .
وكذلك وقف المسلم عليهم ؛ فإنه يصح منه ما وافق حكم الله
[ ص: 603 ] ورسوله ، فيجوز أن يقف على معين منهم أو على أقاربه وبني فلان ونحوه ، ولا يكون الكفر موجبا وشرطا في الاستحقاق ولا مانعا منه ، فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بقوا على كفرهم ، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق ، وكذلك إن وقف على مساكينهم وفقرائهم وزمناهم ونحو ذلك استحقوا ، وإن بقوا على كفرهم فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=4323الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر فلا يصح من كافر ولا مسلم ، فإن في ذلك أعظم الإعانة لهم على الكفر والمساعدة والتقوية عليه ، وذلك مناف لدين الله .
وللإمام أن يستولي على كل وقف وقف على كنيسة أو بيت نار أو بيعة ، كما له أن يستولي على ما وقف على الحانات والخمارات وبيوت الفسق ، بل أولى ؛ فإن بيوت الكفر أبغض إلى الله ورسوله من بيوت الفسق ، وشعار الكفر أعظم من شعائر الفسق ، وأضر على الدين .
وإن كنا نقر بيوت الكفر الجائز إقرارها ولا نقر بيوت الفسق فما ذاك لأنها أسهل منها وأهون ، بل لأن عقد الذمة اقتضى إقرارهم عليها ، كما نقر الكافر على كفره ولا نقر الفاسق على فسقه ، فللأمام أن ينتزع تلك الأوقاف ويجعلها على القربات ، ونحن لم نقر أهل الذمة في بلاد الإسلام على أن يتملكوا أرض المسلمين ودورهم ، ويستعينوا بها على شعار الكفر .
وقد بينا أنهم في دار الإسلام تبع ، ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومن وافقه : إن الجزية تؤخذ منهم عوض سكناهم بين أظهر المسلمين ، وانتفاعهم بدار
[ ص: 604 ] الإسلام وإلا فالأرض لله ولرسوله وعباده المسلمين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أنه يورثها عباده الصالحين .
وقد صرح بذلك المالكية في كتبهم ، فقال
القاضي أبو الوليد : والظاهر عندي أنه لا يجوز الوقف على الكنيسة ; لأنه صرف صدقته إلى وجه معصية محضة ، كما لو صرفها في شراء خمر وأعطاها لأهل الفسق ، ونص الإمام
أحمد على ما هو أبلغ من ذلك .
قال
الخلال في " جامعه " ( باب
nindex.php?page=treesubj&link=4241النصارى يوقفون على البيع ، [ ص: 605 ] فيموت النصراني ، ويخلف أولادا فيسلمون ) : أخبرني
محمد بن أبي هارون الوراق أن
إسحاق بن إبراهيم بن هانئ حدثهم ، وأخبرنا
محمد بن علي ، ثنا
يعقوب بن بختان قال : سئل
أبو عبد الله عن أقوام نصارى أوقفوا على البيعة ضياعا كثيرة ، فمات النصارى ولهم أبناء نصارى ثم أسلم بعد ذلك الأبناء ، والضياع بيد النصارى ، ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى ؟ قال
أبو عبد الله : نعم يأخذونها ، وللمسلمين أن يعينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم .
وهذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أيضا .
قال الشيخ في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي ، كالوقف على غير معين .
قال : فإن قيل : فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا أو ترافعوا إلينا لم ننقض ما فعلوه ، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم ؟ قلنا : الوقف ليس بعقد معاوضة ، وإنما هو إزالة للملك في الموقوف على وجه القربة ، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك ، فبقي بحاله كالعتق .
[ ص: 606 ] قال : وقد روي عن
أحمد في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ، ثم هو حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ، ما عليه ؟ قال : هو حر ويرجع على الغلام بأجرة خدمته مبلغ أربع سنين ، وروي عنه أنه حر ساعة مات مولاه ; لأن هذه معصية .
قال : وهذه الرواية أصح وأوفق لأصوله ، ويحتمل أن قوله : " يرجع عليه بخدمة أربع سنين " لم يكن لصحة الوصية بل لأنه إنما أعتقه بعوض اعتقد صحته ، فإذا تعذر الغرض بإسلامه كان عليه ما يقوم مقامه ، كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم أسلم فإنه يجب عليه المهر ، كذا هاهنا يجب عليه العوض والأول أولى ، انتهى كلامه .
فقد صرح في مسألة الوقف أنه ينزع ويدفع إلى أيدي أولاده الذين أسلموا ، وهذا تصريح منه ببطلان الوقف ، وأنه لما مات انتقل ميراثا عنه إلى أولاده ، ثم أسلموا بعد أن ورثوه .
وأما مسألة الوصية فلا تناقض ذلك ; لأن العتق فيها بعوض فإذا لم يصح رجع الوارث في مقابله ، وهو القيمة كما ذكره الشيخ .
[ ص: 601 ] 111 - فَصْلٌ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=4241حُكْمِ أَوْقَافِهِمْ وَوَقْفِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ .
أَمَّا مَا وَقَفُوهُ هُمْ فَيُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ أَوْقَفُوهُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ جِهَةٍ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ ، فَهَذَا الْوَقْفُ صَحِيحٌ ، حُكْمُهُ حَكَمُ وَقْفِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ ، لَكِنْ إِنْ شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ بَقَاءَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَسْتَحِقُّوا شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُوجَبِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، فَإِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ، مُضَادٌّ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ مَا دَامُوا سَاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ مُرْتَكِبِينَ لِمَعَاصِي اللَّهِ ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ أُخْرِجَ مِنَ الْوَقْفِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ شَيْئًا ، وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ مُسْلِمٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ لَوْ وَقَفُوا عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ دُونَ مَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ مَسَاكِينُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ أَوْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ ؟
قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23500الصَّدَقَةَ جَائِزَةٌ عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَالْوَقْفُ صَدَقَةٌ ، فَهَاهُنَا وَصْفَانِ : وَصْفٌ يُعْتَبَرُ وَهُوَ الْمَسْكَنَةُ ، وَوَصْفٌ مُلْغًى فِي الصَّدَقَةِ ، وَالْوَقْفُ وَهُوَ الْكُفْرُ ، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَقْفِ بِوَصْفِ
[ ص: 602 ] الْمَسْكَنَةِ لَا بِوَصْفِ الْكُفْرِ ، فَوَصْفُ الْكُفْرِ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنَ الدَّفْعِ إِلَيْهِمْ ، وَلَا هُوَ شَرْطٌ فِي الدَّفْعِ كَمَا يَظُنُّهُ الْغَالِطُ أَقْبَحَ الْغَلَطِ وَأَفْحَشَهُ ، وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ بِمَسْكَنَتِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ جِهَةً وَمُوجِبًا ، وَبَيْنَ أَلَّا يَكُونَ مَانِعًا ، فَجَعْلُ الْكُفْرِ جِهَةً مُوجِبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ مُضَادٌّ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَانِعٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَقَطْعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ ، تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ بِرَّهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُوَالَاةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَكَتَبَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَوَلِّي الْكُفَّارِ وَالْإِلْقَاءُ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَعْلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ مُوجِبًا وَشَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَعْظَمِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ تَنْفِيذُهُ مِنْ أَوْقَافِ الْكُفَّارِ ، فَأَمَّا إِذَا وَقَفُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا وَلَا اسْتَفْتَوْنَا عَنْ حُكْمِهِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ فِيهِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ عُقُودِهِمْ وَأَنْكِحَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ .
وَكَذَلِكَ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ مَا وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ
[ ص: 603 ] وَرَسُولِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى أَقَارِبِهِ وَبَنِي فُلَانٍ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يَكُونُ الْكُفْرُ مُوجِبًا وَشَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا مَانِعًا مِنْهُ ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ قَرَابَتِهِ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ وَإِنْ بَقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَفَ عَلَى مَسَاكِينِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَزَمْنَاهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ اسْتَحَقُّوا ، وَإِنْ بَقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=4323الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَمَوَاضِعِ كُفْرِهِمُ الَّتِي يُقِيمُونَ فِيهَا شِعَارَ الْكُفْرِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمُسَاعَدَةِ وَالتَّقْوِيَةِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِدِينِ اللَّهِ .
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى كُلِّ وَقْفٍ وُقِفَ عَلَى كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ أَوْ بِيعَةٍ ، كَمَا لَهُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى مَا وَقَفَ عَلَى الْحَانَاتِ وَالْخَمَّارَاتِ وَبُيُوتِ الْفِسْقِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ بُيُوتَ الْكُفْرِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ بُيُوتِ الْفِسْقِ ، وَشِعَارَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ شَعَائِرِ الْفِسْقِ ، وَأَضَرُّ عَلَى الدِّينِ .
وَإِنْ كُنَّا نُقِرُّ بُيُوتَ الْكُفْرِ الْجَائِزَ إِقْرَارُهَا وَلَا نُقِرُّ بُيُوتَ الْفِسْقِ فَمَا ذَاكَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ مِنْهَا وَأَهْوَنُ ، بَلْ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ اقْتَضَى إِقْرَارَهُمْ عَلَيْهَا ، كَمَا نُقِرُّ الْكَافِرَ عَلَى كُفْرِهِ وَلَا نُقِرُّ الْفَاسِقَ عَلَى فِسْقِهِ ، فَلِلْأَمَامِ أَنْ يَنْتَزِعَ تِلْكَ الْأَوْقَافَ وَيَجْعَلَهَا عَلَى الْقُرُبَاتِ ، وَنَحْنُ لَمْ نُقِرَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يَتَمَلَّكُوا أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ وَدُورَهُمْ ، وَيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى شِعَارِ الْكُفْرِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَبَعٌ ، وَلِهَذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ : إِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عِوَضَ سُكْنَاهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِدَارِ
[ ص: 604 ] الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَالْأَرْضُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّهُ يُورِثُهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ ، فَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ : وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنِيسَةِ ; لِأَنَّهُ صَرَفَ صَدَقَتَهُ إِلَى وَجْهِ مَعْصِيَةٍ مَحْضَةٍ ، كَمَا لَوْ صَرَفَهَا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ وَأَعْطَاهَا لِأَهْلِ الْفِسْقِ ، وَنَصَّ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ
الْخَلَّالُ فِي " جَامِعِهِ " ( بَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=4241النَّصَارَى يُوقِفُونَ عَلَى الْبِيَعِ ، [ ص: 605 ] فَيَمُوتُ النَّصْرَانِيُّ ، وَيَخْلُفُ أَوْلَادًا فَيُسْلِمُونَ ) : أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ الْوَرَّاقُ أَنَّ
إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ حَدَّثَهُمْ ، وَأَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، ثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ قَالَ : سُئِلَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَقْوَامٍ نَصَارَى أَوْقَفُوا عَلَى الْبِيعَةِ ضِيَاعًا كَثِيرَةً ، فَمَاتَ النَّصَارَى وَلَهُمْ أَبْنَاءٌ نَصَارَى ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ ، وَالضِّيَاعُ بِيَدِ النَّصَارَى ، أَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى ؟ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَعَمْ يَأْخُذُونَهَا ، وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ أَيْضًا .
قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ ، كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا عَقَدُوا عُقُودًا فَاسِدَةً وَتَقَابَضُوا ثُمَّ أَسْلَمُوا أَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوهُ ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمُ الرُّجُوعَ فِيمَا وَقَفُوهُ عَلَى كَنَائِسِهِمْ ؟ قُلْنَا : الْوَقْفُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِزَالَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا لَمْ يَزُلِ الْمِلْكُ ، فَبَقِيَ بِحَالِهِ كَالْعِتْقِ .
[ ص: 606 ] قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ فِي نَصْرَانِيٍّ أَشْهَدَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّ غُلَامَهُ فُلَانًا يَخْدِمُ الْبِيعَةَ خَمْسَ سِنِينَ ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ وَخَدَمَ سَنَةً ثُمَّ أَسْلَمَ ، مَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : هُوَ حُرٌّ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغُلَامِ بِأُجْرَةِ خِدْمَتِهِ مَبْلَغُ أَرْبَعِ سِنِينَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُرٌّ سَاعَةَ مَاتَ مَوْلَاهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ .
قَالَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِأُصُولِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ قَوْلَهُ : " يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِدْمَةِ أَرْبَعِ سِنِينَ " لَمْ يَكُنْ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بَلْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْغَرَضُ بِإِسْلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ، كَذَا هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَقَدْ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ أَنَّهُ يُنْزَعُ وَيُدْفَعُ إِلَى أَيْدِي أَوْلَادِهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ ، وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ انْتَقَلَ مِيرَاثًا عَنْهُ إِلَى أَوْلَادِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ وَرِثُوهُ .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ فَلَا تُنَاقِضُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهَا بَعُوضٍ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي مُقَابِلِهِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ .