الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما حدوث العالم  فيمكن علمه [1] بالسمع وبالعقل ، فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة ، وإما بمشاهدة حدوث المحدثات  [2] ، [ ص: 273 ] وإما بغير ذلك ، ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ، ودلالة المعجزات طريق من الطرق  ، وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ، ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم .

                  وأما بالعقل فيعلم [3] أن العالم لو كان قديما لكان : إما واجبا بنفسه ، وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه [4] من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه ; وإما واجبا بغيره فيكون المقتضي له موجبا بذاته  بمعنى [5] أنه مستلزم لمقتضاه ، سواء كان شاعرا مريدا أم [6] لم يكن ، فإن القديم الأزلي إذا قدر أنه معلول مفعول [7] ، فلا بد من أن تكون علة [8] تامة مقتضية له في الأزل ، وهذا هو الموجب بذاته ، ولو كان مبدعه موجبا بذاته [9] علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله [10] ومقتضاه ، والحوادث مشهودة في العالم ، فعلم أن فاعله ليس علة تامة ، [ وإذا لم يكن علة تامة ] [11] لم يكن قديما .

                  وهذه [12] الحوادث التي في العالم إن قيل : إنها من لوازمه امتنع أن [ ص: 274 ] تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم [13] دون لازمه ، وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه ; لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء ، وإن [14] لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن ، فإن [15] لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث [16] بلا محدث ، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة ، وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه ، كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث ، وإن [17] كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة ، وحينئذ فيكون قد تغير [18] وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن ، والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والانتقال من حال إلى حال ، وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث ، والعلة التامة [ الأزلية ] [19] لا يجوز أن يحدث فيها حادث ، فإنه إن حدث [20] بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب [21] ، وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل ، فبطل أن تكون علة تامة أزلية ، وإن جوز مجوز [22] عليها الانتقال من حال إلى حال ، جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن ، فبطل [23] حجة من يقول بقدم العالم .

                  [ ص: 275 ] وأيضا ، فإنه على هذا التقدير [24] لا يكون المنتقل [25] من حال إلى حال إلا فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذات . وإيضاح هذا [26] أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول ، وإما أن يجب أن يكون لها أول ، فإن وجب أن يكون لها أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات [27] الأفلاك أزلية .

                  وأيضا ، فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث [28] ، فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو [29] تكون عارضة له ، فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلو عنها ، فإذا [30] كان لها ابتداء كان له [31] ( * ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها ، فإذا قدر [32] أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا ، كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا [33] بعد أن لم يكن قطعا * ) [34] ، وإن كانت الحوادث [35] عارضة للعالم [36] ثبت حدوث الحوادث بلا سبب ، ( * وإذا جاز حدوث الحوادث [ كلها ] [37] بلا سبب [ حادث ] [38] ، جاز حدوث العالم بلا سبب حادث * ) [39] [40] ، ( * فبطلت كل حجة توجب قدمه ، وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلا * ) [41] .

                  [ ص: 276 ] وإذا قيل : يجوز أن يكون العالم قديما عن علته [42] بلا حادث فيه ، ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا ; لأنه إذا جاز أن يحدثها [43] بعد أن لم يكن محدثا [44] لم يكن موجبا [45] بل فاعلا باختياره ومشيئته ، ( 5 والفاعل باختياره ومشيئته 5 ) [46] لا يقارنه مفعوله ، كما قد بسط في موضعه .

                  ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ، ويجب أن [47] يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث ، فإيجاب تعطيله [48] وإيجاب فعله جمع بين الضدين [49] ، وتخصيص [50] بلا مخصص [51] ، فإنه [52] بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل . ( 12 وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل ، وإما أن يجوز الأمران .

                  فإن وجب كونه فاعلا في الأزل ، جاز حدوث الحوادث في الأزل ، ووجب أن لا يكون لها ابتداء ، والتقدير أن لها ابتداء 12 ) [53] ، وإن امتنع كونه [ فاعلا ] [54] في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم [55] في الأزل غيره ، فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث .

                  [ ص: 277 ] وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل ( 1 وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل 1 ) [56] ، فجاز [57] حدوث الحوادث في الأزل .

                  [58] [ وإن قيل : بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال ; كما يقوله من يقول [59] بقدم العقول والنفوس ، وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات [60] ، وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة [61] ، كان هذا من أفسد الأقوال ; لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذ لم يكن هناك ما يقتضي تجدد إحداث الحوادث ، مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضي دوام حدوث الحوادث ، فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم ، وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث [62] ، لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم ، والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور ، فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين ، لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء .

                  [ ص: 278 ] ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل ، يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ، ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث ، فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس ، والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون : إنه فاعل لها في الأزل ، بل يقولون : إنها واجبة بنفسها ، هذا هو المحكي عنهم ، وقد يقولون : إنها معلولة له لا مفعولة له ] [63] .

                  فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل ، وقدر امتناع الحدوث في الأزل ، جمع بين [ وجوب ] [64] كونه فاعلا ، وامتناع كونه فاعلا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية