[ ص: 296 ] ( فصل ) : قال السائل : مشهور عندكم في الكتاب والسنة أن
nindex.php?page=treesubj&link=30589نبيكم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم محوه عنهما لسبب الرئاسة والمأكلة ، فالعقل يستشكل ذلك ، أفكلهم اتفقوا على محو اسمه من الكتب المنزلة من ربهم شرقا وغربا جنوبا وشمالا ؟ ! هذا أمر يستشكله العقل أعظم من نفيهم بألسنتهم ، لأنه يمكن الرجوع عما قالوا بألسنتهم والرجوع عما محوا أبعد .
والجواب : أن هذا السؤال مبني على فهم فاسد ، وهو أن المسلمين يعتقدون أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم الصريح وهو
محمد بالعربية مذكور في التوراة والإنجيل - وهما الكتابان المتضمنان الشريعتين - وأن المسلمين يعتقدون : أن اليهود والنصارى في جميع أقطار الأرض محوا ذلك الاسم وأسقطوه جملة واحدة من الكنائس ، وتواصوا بذلك بعدا وقربا ، وشرقا وغربا . وهذا لم يقله عالم من علماء المسلمين ، ولا أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه عنهم ، ولا رسوله ، ولا بكتهم به يوما من الدهر ، ولا قاله أحد من الصحابة ، ولا الأئمة بعدهم ، ولا علماء التفسير ، ولا المعتنون بأخبار الأمم وتواريخهم . وإن قدر أنه قاله بعض عوام المسلمين يقصد به نصر الرسول ، فقد قيل : يضر الصديق الجاهل أكثر مما يضر العدو العاقل . وإنما أتي هؤلاء من قلة فهم القرآن ، وظنوا أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر [ ص: 297 ] دل على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين ، وإن ذلك لم يوجد ألبتة . فهذه ثلاث مقامات :
الأول : أن الرب سبحانه إنما أخبر عن كون رسوله مكتوبا عندهم ، أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته ، ولم يخبر بأن صريح الاسم العربي مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، وهذا واقع في الكتابين كما سنذكر ألفاظهما إن شاء الله ، وهذا أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز ، ولا يشاء أحد يسمى بهذا الاسم أن يدعي أنه هو إلا فعل ، إذا الحوالة إنما وقعت على مجرد الاسم ، وهذا لا يحصل به بيان ولا تعريف ولا هدى ، بخلاف ذكره بنعته وصفته وعلاماته ودعوته وصفة أمته ، ووقت مخرجه ونحو ذلك ، فإن هذا يعينه ويميزه ويحصر نوعه في شخصه . وهذا القدر مذكور في التوراة والإنجيل وغيرها من النبوات ، التي بأيدي أهل الكتاب كما سنذكرها ، ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تصديقه واتباعه وإقامة الحجة على من خالفه وجحد نبوته ، ولا سيما أهل العلم والكتاب ، فإن الاستدلال عليهم
[ ص: 298 ] بما يعلمون بطلانه قطعا لا يفعله عاقل ، وهو بمنزلة من يقول لرجل : علامة صدقي أنك فلان بن فلان ، وصفتك كيت وكيت ، وتعرف كيت وكيت ، ولم يكن الأمر كذلك بل بضده ، فهذا لا يصدر ممن له مسكة عقل ، ولا يصدقه أحد على ذلك ، ولا يتبعه أحد ، بل ينفر العقلاء كلهم عن تصديقه واتباعه ، والعادة تحيل سكوتهم عن الطعن عليه والرد والتهجين لقوله .
ومن المعلوم بالضرورة أن
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وزاده شرفا وصلاة وسلاما ، نادى معلنا في هاتين الأمتين اللتين هما أعلم الأمم في الأرض قبل مبعثه بأن ذكره ونعته وصفته بعينه عندهم في كتبهم ، وهو يتلو عليهم ذلك ليلا ونهارا ، سرا وجهارا في كل مجمع ، وكل ناد ، يدعوهم لذلك - يعني إلى تصديقه والإيمان به - فمنهم من يصدقه ويؤمن به ، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره ، كما سيمر بك إن شاء الله تعالى .
وغاية المكذب الجاحد أن يقول : هذا الوصف حق ، ولكن لست أنت المراد به بل نبي آخر ، وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة ، ولم تجز عنه هذه المكابرة إلا كشف عورته وإبداء الفضيحة بالكذب والبهتان ، فإن الصفات والنعوت والعلامات المذكورة عندهم منطبقة عليه حذو القذة بالقذة ، بحيث لا يشك من عرفها ورآه أنه هو
[ ص: 299 ] كما عرفه
سلمان ، وكما عرفه هرقل بتلك العلامات المذكورة التي سأل عنها
أبا سفيان ، وطابقت ما عنده ، فقال : إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي ، وسيملك ما تحت قدمي هاتين .
وكذلك من قدمنا ذكرهم من الأحبار والرهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم . قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
وقال في موضع آخر :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=20الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون .
ومعلوم أن هذه المعرفة إنما هي بالنعت والصفة المكتوبة عندهم التي هي منطبقة عليه ، كما قال بعض المؤمنين منهم : والله لأحدنا أعرف به من ابنه ، إن أحدنا ليخرج من عند امرأته وما يدري ما يحدث بعده .
ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على من عرف الحق منهم ، ولم يستكبر عن اتباعه فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=84وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=85فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=86والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .
[ ص: 300 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لما حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي وقرءوا القرآن ، سمع ذلك القسيسون والرهبان ، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير :
بعث nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي من خيار أصحابه ثمانين رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا ، وقالوا : نعرف والله ، أنه الحق ، فأسلموا وذهبوا إلى nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي فأخبروه فأسلم ، فأنزل الله تعالى فيهم : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآيات . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي :
كانوا اثني عشر رجلا ، سبعة من القسيسين وخمسة من الرهبان ، فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بكوا وقالوا : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=53ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هم
محمد وأمته ، وهم القوم الصالحون الذين طمعوا أن يدخلهم الله فيهم ، والمقصود أن هؤلاء عرفوا أنه رسول الله بالنعت الذي عندهم ، فلم يملكوا أعينهم من البكاء ، وقلوبهم من المبادرة إلى الإيمان ، ونظير هذا قوله سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=107قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=109ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .
قال إمام أهل التفسير
مجاهد : هم قوم من أهل الكتاب لما سمعوا القرآن خروا سجدا ، وقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا . كان الله عز وجل
[ ص: 301 ] قد وعد على ألسنة أنبيائه ورسله أن يبعث في آخر الزمان نبيا عظيم الشأن ، يظهر دينه على الدين كله ، وتنتشر دعوته في أقطار الأرض ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة .
وأهل الكتاب مجمعون على أن الله وعدهم بهذا النبي ، فالسعداء منهم عرفوا الحق فآمنوا به واتبعوه ، والأشقياء قالوا : نحن ننتظره ، ولم يبعث بعد رسولا ، وأولئك لما سمعوا القرآن من الرسول عرفوه أنه الرسول الموعود ، فخروا سجدا لله إيمانا به وبرسوله ، وتصديقا بوعده الذي أنجزه فرأوه عيانا فقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .
[ ص: 296 ] ( فَصْلٌ ) : قَالَ السَّائِلُ : مَشْهُورٌ عِنْدَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30589نَبِيَّكُمْ كَانَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَكِنَّهُمْ مَحَوْهُ عَنْهُمَا لِسَبَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْمَأْكَلَةِ ، فَالْعَقْلُ يَسْتَشْكِلُ ذَلِكَ ، أَفَكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مَحْوِ اسْمِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ رَبِّهِمْ شَرْقًا وَغَرْبًا جَنُوبًا وَشَمَالًا ؟ ! هَذَا أَمْرٌ يَسْتَشْكِلُهُ الْعَقْلُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْيِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَمَّا قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالرُّجُوعُ عَمَّا مَحَوْا أَبْعَدُ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمٍ فَاسِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اسْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّرِيحَ وَهُوَ
مُحَمَّدٌ بِالْعَرَبِيَّةِ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - وَهُمَا الْكِتَابَانِ الْمُتَضَمِّنَانِ الشَّرِيعَتَيْنِ - وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ : أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ مَحَوْا ذَلِكَ الِاسْمَ وَأَسْقَطُوهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الْكَنَائِسِ ، وَتَوَاصَوْا بِذَلِكَ بُعْدًا وَقُرْبًا ، وَشَرْقًا وَغَرْبًا . وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمْ ، وَلَا رَسُولُهُ ، وَلَا بَكَّتَهُمْ بِهِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَا الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ ، وَلَا عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ ، وَلَا الْمُعْتَنُونَ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَتَوَارِيخِهِمْ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْضُ عَوَامِ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ بِهِ نَصْرَ الرَّسُولِ ، فَقَدْ قِيلَ : يَضُرُّ الصَّدِيقُ الْجَاهِلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَضُرُّ الْعَدُوُّ الْعَاقِلُ . وَإِنَّمَا أُتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ قِلَّةِ فَهْمِ الْقُرْآنِ ، وَظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [ ص: 297 ] دَلَّ عَلَى الِاسْمِ الْخَاصِّ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمَخْصُوصَيْنِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ رَسُولِهِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ ، أَيِ الْإِخْبَارُ عَنْهُ وَصِفَتُهُ وَمَخْرَجُهُ وَنَعْتُهُ ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِأَنَّ صَرِيحَ الِاسْمِ الْعَرَبِيِّ مَذْكُورٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَهَذَا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابَيْنِ كَمَا سَنَذْكُرُ أَلْفَاظَهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ ، فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ قَدْ يَقَعُ فِي الِاسْمِ فَلَا يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ هُوَ إِلَّا فَعَلَ ، إِذَا الْحِوَالَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ بَيَانٌ وَلَا تَعْرِيفٌ وَلَا هُدًى ، بِخِلَافِ ذِكْرِهِ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَعَلَامَاتِهِ وَدَعْوَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ ، وَوَقْتِ مَخْرَجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذَا يُعَيِّنُهُ وَيُمَيِّزُهُ وَيَحْصُرُ نَوْعَهُ فِي شَخْصِهِ . وَهَذَا الْقَدْرُ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهَا مِنَ النُّبُوَّاتِ ، الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا سَنَذْكُرُهَا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَجَحَدَ نُبُوَّتَهُ ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ
[ ص: 298 ] بِمَا يَعْلَمُونَ بُطْلَانَهُ قَطْعًا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِرَجُلٍ : عَلَامَةُ صِدْقِي أَنَّكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، وَصِفَتُكَ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَتَعْرِفُ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ بِضِدِّهِ ، فَهَذَا لَا يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ مُسْكَةُ عَقْلٍ ، وَلَا يُصَدِّقُهُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَتْبَعُهُ أَحَدٌ ، بَلْ يَنْفِرُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ ، وَالْعَادَةُ تُحِيلُ سُكُوتَهُمْ عَنِ الطَّعْنِ عَلَيْهِ وَالرَّدِّ وَالتَّهْجِينِ لِقَوْلِهِ .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَزَادَهُ شَرَفًا وَصَلَاةً وَسَلَامًا ، نَادَى مُعْلِنًا فِي هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَعْلَمُ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِأَنَّ ذِكْرَهُ وَنَعْتَهُ وَصِفَتَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ ، وَهُوَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا ، سِرًّا وَجَهَارًا فِي كُلِّ مَجْمَعٍ ، وَكُلِّ نَادٍ ، يَدْعُوهُمْ لِذَلِكَ - يَعْنِي إِلَى تَصْدِيقِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ - فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُهُ وَيُؤْمِنُ بِهِ ، وَيُخْبِرُ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مَنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَذِكْرِهِ ، كَمَا سَيَمُرُّ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَغَايَةُ الْمُكَذِّبِ الْجَاحِدِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْوَصْفُ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَسْتَ أَنْتَ الْمُرَادَ بِهِ بَلْ نَبِيٌّ آخَرُ ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُكَابَرَةِ ، وَلَمْ تُجْزِ عَنْهُ هَذِهِ الْمُكَابَرَةُ إِلَّا كَشْفَ عَوْرَتِهِ وَإِبْدَاءَ الْفَضِيحَةِ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتَ وَالْعَلَامَاتِ الْمَذْكُورَةَ عِنْدَهُمْ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ مَنْ عَرَفَهَا وَرَآهُ أَنَّهُ هُوَ
[ ص: 299 ] كَمَا عَرَفَهُ
سَلْمَانُ ، وَكَمَا عَرَفَهُ هِرَقْلُ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا
أَبَا سُفْيَانَ ، وَطَابَقَتْ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ : إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ، وَسَيَمْلِكُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=20الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَهُمُ الَّتِي هِيَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ لَأَحَدُنَا أَعْرَفُ بِهِ مِنَ ابْنِهِ ، إِنَّ أَحَدَنَا لَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِ امْرَأَتِهِ وَمَا يَدْرِي مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ .
وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=84وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=85فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=86وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ .
[ ص: 300 ] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا حَضَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيِ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ ، سَمِعَ ذَلِكَ الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ ، فَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُمْ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ :
بَعَثَ nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيُّ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ ثَمَانِينَ رَجُلًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَبَكَوْا وَرَقُّوا ، وَقَالُوا : نَعْرِفُ وَاللَّهِ ، أَنَّهُ الْحَقُّ ، فَأَسْلَمُوا وَذَهَبُوا إِلَى nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ فَأَخْبَرُوهُ فَأَسْلَمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الْآيَاتِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ :
كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةً مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَخَمْسَةً مِنَ الرُّهْبَانِ ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بَكَوْا وَقَالُوا : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=53رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمْ
مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ ، وَهُمُ الْقَوْمُ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ طَمِعُوا أَنْ يُدْخِلَهُمُ اللَّهُ فِيهِمْ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَفُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّعْتِ الَّذِي عِنْدَهُمْ ، فَلَمْ يَمْلِكُوا أَعْيُنَهُمْ مِنَ الْبُكَاءِ ، وَقُلُوبَهُمْ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=107قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=109وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا .
قَالَ إِمَامُ أَهْلَ التَّفْسِيرِ
مُجَاهِدٌ : هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ خَرُّوا سُجَّدًا ، وَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
[ ص: 301 ] قَدْ وَعَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ أَنْ يَبْعَثَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيًّا عَظِيمَ الشَّأْنِ ، يَظْهَرُ دِينُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى رَأْسِ أُمَّتِهِ تَقُومُ السَّاعَةُ .
وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِهَذَا النَّبِيِّ ، فَالسُّعَدَاءُ مِنْهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ فَآمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ ، وَالْأَشْقِيَاءُ قَالُوا : نَحْنُ نَنْتَظِرُهُ ، وَلَمْ يُبْعَثْ بَعْدُ رَسُولًا ، وَأُولَئِكَ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنَ الرَّسُولِ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْمَوْعُودُ ، فَخَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ إِيمَانًا بِهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ الَّذِي أَنْجَزَهُ فَرَأَوْهُ عِيَانًا فَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا .