فصل
قال الدرجة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=19803تحسين خلقك مع الحق . وتحسينه منك : أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا ، وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكرا ، وأن لا ترى له من الوفاء بدا .
هذه الدرجة مبنية على قاعدتين .
إحداهما : أن تعلم أنك ناقص . وكل ما يأتي من الناقص ناقص . فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة .
nindex.php?page=treesubj&link=19803_19801فعلى العبد أن يتعذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر . أما الشر : فظاهر . وأما الخير : فيعتذر من نقصانه . ولا يراه صالحا لربه .
فهو - مع إحسانه - معتذر في إحسانه . ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=60والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980501هو الرجل يصوم ، ويتصدق . ويخاف أن لا يقبل منه فإذا خاف فهو بالاعتذار أولى .
والحامل له على هذا الاعتذار أمران :
أحدهما : شهود تقصيره ونقصانه .
والثاني : صدق محبته . فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه . وهو معتذر إليه ، مستحي منه : أن يواجهه بما واجهه به . وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه . وهذا مشاهد في محبة المخلوقين .
القاعدة الثانية : استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك ، والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك ، وأنك عاجز عن شكره . ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة . فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله . فإذا ذكره بشيء وأعطاه إياه : كان سروره بذكره له ، وتأهيله لعطائه : أعظم عنده من سروره بذلك العطاء بل يغيب بسروره بذكره له عن سروره بالعطية . وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له ، وإن ناله بمساءة . كما قال القائل :
[ ص: 309 ] لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالكا
فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة - وإن دقت - فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة . فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدا إلا بالخير ؟ ويستحيل خلاف ذلك في حقه . كما يستحيل عليه خلاف كماله . وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980502والشر ليس إليك أي لا يضاف إليك . ولا ينسب إليك . ولا يصدر منك . فإن أسماءه كلها حسنى ، وصفاته كلها كمال ، وأفعاله كلها فضل وعدل ، وحكمة ورحمة ومصلحة . فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى ؟ فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر . وله فيه النعمة والفضل .
قوله : وأن لا يرى من الوفاء بدا .
يعني : أن معاملتك للحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منك ، والشكر على ما منه - عقد مع الله تعالى لازم لك أبدا ، لا ترى من الوفاء به بدا . فليس ذلك بأمر عارض ، وحال يحول . بل عقد لازم عليك الوفاء به إلى يوم القيامة .
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19803تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ . وَتَحْسِينُهُ مِنْكَ : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا ، وَأَنْ لَا تَرَى لَهُ مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا .
هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ .
إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ نَاقِصٌ . وَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنَ النَّاقِصِ نَاقِصٌ . فَهُوَ يُوجِبُ اعْتِذَارَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ .
nindex.php?page=treesubj&link=19803_19801فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَذَّرَ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . أَمَّا الشَّرُّ : فَظَاهِرٌ . وَأَمَّا الْخَيْرُ : فَيَعْتَذِرُ مِنْ نُقْصَانِهِ . وَلَا يَرَاهُ صَالِحًا لِرَبِّهِ .
فَهُوَ - مَعَ إِحْسَانِهِ - مُعْتَذِرٌ فِي إِحْسَانِهِ . وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْوَجَلِ مِنْهُ مَعَ إِحْسَانِهِمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=60وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980501هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُ . وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ فَإِذَا خَافَ فَهُوَ بِالِاعْتِذَارِ أَوْلَى .
وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : شُهُودُ تَقْصِيرِهِ وَنُقْصَانِهِ .
وَالثَّانِي : صِدْقُ مَحَبَّتِهِ . فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ . وَهُوَ مُعْتَذِرٌ إِلَيْهِ ، مُسْتَحْيٍ مِنْهُ : أَنْ يُوَاجِهَهُ بِمَا وَاجَهَهُ بِهِ . وَهُوَ يَرَى أَنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وَأَجَلُّ مِنْهُ . وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِينَ .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : اسْتِعْظَامُ كُلِّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْكَ ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ ، وَأَنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ . وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا فِي الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ . فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِنْ مَحْبُوبِهِ كُلَّ مَا يَنَالُهُ . فَإِذَا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ : كَانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ ، وَتَأْهِيلِهِ لِعَطَائِهِ : أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالْعَطِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ الْمُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ ، وَإِنْ نَالَهُ بِمَسَاءَةٍ . كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
[ ص: 309 ] لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا
فَكَيْفَ إِذَا نَالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ - وَإِنْ دَقَّتْ - فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً . فَكَيْفَ هَذَا مَعَ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِي أَبَدًا إِلَّا بِالْخَيْرِ ؟ وَيَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ . كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ كَمَالِهِ . وَقَدْ أَفْصَحَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980502وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَيْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ . وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ . وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ . فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى ، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا كَمَالٌ ، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَضْلٌ وَعَدْلٌ ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ . فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟ فَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنْهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ . وَلَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ .
قَوْلُهُ : وَأَنْ لَا يَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا .
يَعْنِي : أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى الِاعْتِذَارِ مِنْ كُلِّ مَا مِنْكَ ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا مِنْهُ - عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمٌ لَكَ أَبَدًا ، لَا تَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ بُدًّا . فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ ، وَحَالٍ يُحَوَّلُ . بَلْ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .