[ ص: 12 ] فصل
روى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في " صحيحه " : من حديث
أبي الزبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002452nindex.php?page=treesubj&link=17257لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل ) .
وفي " الصحيحين " : عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002453ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ) .
وفي " مسند
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " : من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15939زياد بن علاقة ، (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002454عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد " ، قالوا : ما هو ؟ قال " الهرم ) .
وفي لفظ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002455إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله ) .
وفي " المسند " : من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود يرفعه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002456إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله ) .
[ ص: 13 ] وفي " المسند " و " السنن" : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002457عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قدر الله" ) .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002458لكل داء دواء ) ، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلا ؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية ، أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصرا ، ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ويكون
[ ص: 14 ] المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=25تدمر كل شيء بأمر ربها ) [ الأحقاف : 25] أي : كل شيء يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة .
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر فكذلك . وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى ( هي من قدر الله فما خرج شيء عن قدره ، بل يرد
[ ص: 15 ] قدره بقدره وهذا الرد من قدره ) ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة ؛ لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) [ الأنعام 148 ] و (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=35لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ) [ النحل : 35] فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك؟ . وقد روي في أثر إسرائيلي أن
إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : " مني " . قال : فممن الدواء " ؟ قال " مني " . قال فما بال الطبيب ؟ . قال " رجل أرسل الدواء على يديه " .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002459لكل داء دواء ) تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح
[ ص: 16 ] له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى .
[ ص: 12 ] فَصْلٌ
رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ
أبي الزبير ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002452nindex.php?page=treesubj&link=17257لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ ، بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " : عَنْ
عطاء ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002453مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ) .
وَفِي " مُسْنَدِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَدَ " : مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=15939زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ ، (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002454عَنْ أسامة بن شريك ، قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَاءَتِ الْأَعْرَابُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى ؟ فَقَالَ " نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ " ، قَالُوا : مَا هُوَ ؟ قَالَ " الْهَرَمُ ) .
وَفِي لَفْظٍ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002455إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ) .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " : مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002456إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ) .
[ ص: 13 ] وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ" : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002457عَنْ أبي خزامة ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : " هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ" ) .
فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ، وَإِبْطَالَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002458لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ) ، عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَتَنَاوَلَ الْأَدْوَاءَ الْقَاتِلَةَ ، وَالْأَدْوَاءَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِطَبِيبٍ أَنْ يُبْرِئَهَا ، وَيَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَدْوِيَةً تُبْرِئُهَا ، وَلَكِنْ طَوَى عِلْمَهَا عَنِ الْبَشَرِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لِلْخَلْقِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ ، وَلِهَذَا عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّفَاءَ عَلَى مُصَادَفَةِ الدَّوَاءِ لِلدَّاءِ ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا لَهُ ضِدٌّ ، وَكُلُّ دَاءٍ لَهُ ضِدٌّ مِنَ الدَّوَاءِ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ ، فَعَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُرْءَ بِمُوَافَقَةِ الدَّاءِ لِلدَّوَاءِ ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ وَجُودِهِ ، فَإِنَّ الدَّوَاءَ مَتَى جَاوَزَ دَرَجَةَ الدَّاءِ فِي الْكَيْفِيَّةِ ، أَوْ زَادَ فِي الْكَمِّيَّةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي نَقَلَهُ إِلَى دَاءٍ آخَرَ ، وَمَتَى قَصَرَ عَنْهَا لَمْ يَفِ بِمُقَاوَمَتِهِ ، وَكَانَ الْعِلَاجُ قَاصِرًا ، وَمَتَى لَمْ يَقَعِ الْمُدَاوِي عَلَى الدَّوَاءِ ، أَوْ لَمْ يَقَعِ الدَّوَاءُ عَلَى الدَّاءِ ، لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ ، وَمَتَى لَمْ يَكُنِ الزَّمَانُ صَالِحًا لِذَلِكَ الدَّوَاءِ لَمْ يَنْفَعْ ، وَمَتَى كَانَ الْبَدَنُ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ أَوِ الْقُوَّةُ عَاجِزَةً عَنْ حَمْلِهِ ، أَوْ ثَمَّ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِهِ ، لَمْ يَحْصُلِ الْبُرْءُ لِعَدَمِ الْمُصَادَفَةِ ، وَمَتَى تَمَّتِ الْمُصَادَفَةُ حَصَلَ الْبُرْءُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا بُدَّ ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحْمِلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ ، لَا سِيَّمَا وَالدَّاخِلُ فِي اللَّفْظِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْخَارِجِ مِنْهُ ، وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ لِسَانٍ وَيَكُونُ
[ ص: 14 ] الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً يَقْبَلُ الدَّوَاءَ إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً ، فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَدْوَاءُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الدَّوَاءَ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرِّيحِ الَّتِي سَلَّطَهَا عَلَى قَوْمِ عَادٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=25تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) [ الْأَحْقَافِ : 25] أَيْ : كُلُّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التَّدْمِيرَ ، وَمِنْ شَأْنِ الرِّيحِ أَنْ تُدَمِّرَهُ ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ خَلْقَ الْأَضْدَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمُقَاوَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ ، وَدَفْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، وَتَسْلِيطَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، تَبَيَّنَ لَهُ كَمَالُ قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى ، وَحِكْمَتُهُ ، وَإِتْقَانُهُ مَا صَنَعَهُ ، وَتَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَالْوَحْدَانِيَّةِ ، وَالْقَهْرِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَلَهُ مَا يُضَادُّهُ وَيُمَانِعُهُ كَمَا أَنَّهُ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ بِذَاتِهِ .
وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتَّدَاوِي وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ دَاءِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ ، وَالْحَرِّ ، وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا ، بَلْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا ، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التَّوَكُّلِ ، كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةِ وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُهَا أَنَّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التَّوَكُّلِ ، فَإِنَّ تَرْكَهَا عَجْزًا يُنَافِي التَّوَكُّلَ الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَإِلَّا كَانَ مُعَطِّلًا لِلْحِكْمَةِ وَالشَّرْعِ فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا وَلَا تَوَكُّلَهُ عَجْزًا .
وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التَّدَاوِي ، وَقَالَ : إِنْ كَانَ الشِّفَاءُ قَدْ قُدِّرَ فَالتَّدَاوِي لَا يُفِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ فَكَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَرَضَ حَصَلَ بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَقَدَرُ اللَّهِ لَا يُدْفَعُ وَلَا يُرَدُّ ، وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأَعْرَابُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا أَفَاضِلُ الصِّحَابَةِ فَأَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَنْ يُورِدُوا مِثْلَ هَذَا ، وَقَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا شَفَى وَكَفَى ، فَقَالَ : هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ وَالرُّقَى وَالتُّقَى ( هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَمَا خَرَجَ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ ، بَلْ يُرَدُّ
[ ص: 15 ] قَدَرُهُ بِقَدَرِهِ وَهَذَا الرَّدُّ مِنْ قَدَرِهِ ) ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ قَدَرِهِ بِوَجْهٍ مَا ، وَهَذَا كَرَدِّ قَدَرِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا ، وَكَرَدِّ قَدَرِ الْعَدُوِّ بِالْجِهَادِ وَكُلٌّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ وَالدَّفْعُ .
وَيُقَالُ لِمُورِدِ هَذَا السُّؤَالِ : هَذَا يُوجِبُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تُبَاشِرَ سَبَبًا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرَّةَ إِنْ قُدِّرَتَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى وُقُوعِهِمَا ، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَفَسَادُ الْعَالَمِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا دَافِعٌ لِلْحَقِّ مُعَانِدٌ لَهُ ، فَيَذْكُرُ الْقَدَرَ لِيَدْفَعَ حُجَّةَ الْمُحِقِّ عَلَيْهِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا ) [ الْأَنْعَامِ 148 ] وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=35لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا ) [ النَّحْلِ : 35] فَهَذَا قَالُوهُ دَفْعًا لِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ .
وَجَوَابُ هَذَا السَّائِلِ أَنْ يُقَالَ : بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ تَذْكُرْهُ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ كَذَا وَكَذَا بِهَذَا السَّبَبِ ، فَإِنْ أَتَيْتَ بِالسَّبَبِ حَصَلَ الْمُسَبَّبُ وَإِلَّا فَلَا ، فَإِنْ قَالَ : إِنْ كَانَ قَدَّرَ لِي السَّبَبَ ، فَعَلْتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ لِي لَمْ أَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ .
قِيلَ : فَهَلْ تَقْبَلُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ مِنْ عَبْدِكَ ، وَوَلَدِكَ ، وَأَجِيرِكَ إِذَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْكَ فِيمَا أَمَرْتَهُ بِهِ ، وَنَهَيْتَهُ عَنْهُ فَخَالَفَكَ ؟ فَإِنْ قَبِلْتَهُ ، فَلَا تَلُمْ مَنْ عَصَاكَ ، وَأَخَذَ مَالَكَ ، وَقَذَفَ عِرْضَكَ ، وَضَيَّعَ حُقُوقَكَ ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْكَ فِي دَفْعِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَيْكَ؟ . وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ إسْرَائِيلِيٍّ أَنَّ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ قَالَ : يَا رَبِّ مِمَّنِ الدَّاءُ ؟ قَالَ : " مِنِّي " . قَالَ : فَمِمَّنِ الدَّوَاءُ " ؟ قَالَ " مِنِّي " . قَالَ فَمَا بَالُ الطَّبِيبِ ؟ . قَالَ " رَجُلٌ أُرْسِلُ الدَّوَاءَ عَلَى يَدَيْهِ " .
وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002459لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ) تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ ، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أَنَّ لِدَائِهِ دَوَاءً يُزِيلُهُ ، تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرُوحِ الرِّجَاءِ ، وَبَرَدَتْ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الْيَأْسِ ، وَانْفَتَحَ
[ ص: 16 ] لَهُ بَابُ الرَّجَاءِ ، وَمَتَى قَوِيَتْ نَفْسُهُ انْبَعَثَتْ حَرَارَتُهُ الْغَرِيزِيَّةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْأَرْوَاحِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ ، وَمَتَى قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ قَوِيَتِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ حَامِلَةٌ لَهَا ، فَقَهَرَتِ الْمَرَضَ وَدَفَعَتْهُ .
وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لِهَذَا الدَّاءِ دَوَاءً أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَالتَّفْتِيشُ عَلَيْهِ . وَأَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ عَلَى وِزَانِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْقَلْبِ مَرَضًا إِلَّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً بِضَدِّهِ ، فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الدَّاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَادَفَ دَاءَ قَلْبِهِ أَبْرَأَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .