(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم ، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب .
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم ، فإن ظاهر الآية يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعي أن كل الطعام كان حلا ثم صار البعض حراما بعد أن كان حلا والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراما أبدا .
وإذا عرفت هذا فنقول : الآية تحتمل وجوها :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=22177اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد - صلى الله عليه وسلم [ ص: 120 ] على إنكار النسخ ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) ، فذاك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده ، فقد حصل النسخ ، فبطل قولكم : النسخ غير جائز ، ثم إن
اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن
إسرائيل حرمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراما من لدن زمان
آدم - عليه السلام - إلى هذا الزمان ، فعند هذا طلب الرسول - عليه السلام - منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن
nindex.php?page=treesubj&link=31894بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - أحدها : أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ ، وهو لازم لا محيص عنه ، وثانيها : أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى ، وثالثها : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ، فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء ، فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم .
الوجه الثاني : أن
اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة
إبراهيم ، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين
إبراهيم ، فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه ، فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الشبهة بأن قال : ذلك كان حلا
لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، إلا أن
يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك ، فأمرهم الرسول - عليه السلام - بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على
إبراهيم - عليه السلام - فعجزوا عن ذلك وافتضحوا ، فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على
إبراهيم عليه السلام .
الوجه الثالث : أنه تعالى لما أنزل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=146وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) [ الأنعام : 146 ] ، وقال أيضا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على
اليهود هذه الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم ، وأنه لم يكن شيء من الطعام حراما غير الطعام الواحد الذي حرمه
إسرائيل على نفسه ، فشق ذلك على
اليهود من وجهين :
أحدهما : أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة ، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه .
والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا
nindex.php?page=treesubj&link=31931موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة ، بل زعموا أنها كانت محرمة أبدا ، فطالبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا ، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم ، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام ) أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام ، وأقول : اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا ؟ .
[ ص: 121 ] ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أنه تعالى أدخل لفظ " كل " على لفظ الطعام في هذه الآية ، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك ، وثانيها : أنه استثنى عنه ما حرم
إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إن الإنسان لفي خسر nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إلا الذين آمنوا ) [ العصر : 2 ، 3 ] . وثالثها : أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10والنخل باسقات لها طلع نضيد nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11رزقا للعباد ) [ ق : 10 ، 11 ] ، فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب " الكشاف " ، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم ، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب " الكشاف " .
المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=34080_26316الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل ، وزعم بعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة - رحمة الله عليه - أنه اسم للبر خاصة ، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه ؛ لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم
إسرائيل على نفسه ، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه
إسرائيل على نفسه كان شيئا سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها ، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249ومن لم يطعمه فإنه مني ) [ البقرة : 249 ] ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) [ المائدة : 5 ] ، وأراد الذبائح ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012110وقالت nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها : ما لنا طعام إلا الأسودان ، والمراد التمر والماء .
إذا عرفت هذا فنقول : ظاهر هذه الآية يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=31894_27931جميع المطعومات كان حلا لبني إسرائيل ، ثم قال
القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي
اليهود في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت محرمة على
إبراهيم ، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق ، بل للعهد السابق ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) [ الأنعام : 145 ] ، فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره ، فكذا في هذه الآية .
المسألة الثالثة : الحل مصدر ، يقال : حل الشيء حلا كقولك : ذلت الدابة ذلا وعز الرجل عزا ، ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10لا هن حل لهم ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=34080والوصف بالمصدر يفيد المبالغة ، فهاهنا الحل والمحلل واحد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - في زمزم هي حل وبل رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة فسئل
سفيان : ما حل ؟ فقال محلل .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
اعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي تَوْجِيهِ الْإِلْزَامَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ فِي بَيَانِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا ثُمَّ صَارَ الْبَعْضُ حَرَامًا بَعْدَ أَنْ كَانَ حِلًّا وَالْقَوْمُ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي هُوَ الْآنَ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا أَبَدًا .
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22177الْيَهُودَ كَانُوا يُعَوِّلُونَ فِي إِنْكَارِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ ص: 120 ] عَلَى إِنْكَارِ النَّسْخِ ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ) ، فَذَاكَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ حَلَالًا ثُمَّ صَارَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ ، فَقَدْ حَصَلَ النَّسْخُ ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ : النَّسْخُ غَيْرُ جَائِزٍ ، ثُمَّ إِنَّ
الْيَهُودَ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالُ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ حُرْمَةُ ذَلِكَ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ بِسَبَبِ أَنَّ
إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ زَمَانِ
آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى هَذَا الزَّمَانِ ، فَعِنْدَ هَذَا طَلَبَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْهُمْ أَنْ يُحْضِرُوا التَّوْرَاةَ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31894بَعْضَ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ إِنَّمَا حُرِّمَ بِسَبَبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَخَافُوا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَامْتَنَعُوا مِنْ إِحْضَارِ التَّوْرَاةِ ، فَحَصَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُقَوِّي دَلَائِلَ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِ النَّسْخِ ، وَهُوَ لَازِمٌ لَا مَحِيصَ عَنْهُ ، وَثَانِيهَا : أَنَّهُ ظَهَرَ لِلنَّاسِ كَذِبُهُمْ وَأَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ مَا لَيْسَ فِيهَا تَارَةً ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِمَا هُوَ فِيهَا أُخْرَى ، وَثَالِثُهَا : أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْغَامِضَةَ مِنْ عُلُومِ التَّوْرَاةِ إِلَّا بِخَبَرِ السَّمَاءِ ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ عِلْمِيٌّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَبَيَانِ النَّظْمِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ
الْيَهُودَ قَالُوا لَهُ : إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ تَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا فِي دِينِ
إِبْرَاهِيمَ ، فَجَعَلُوا هَذَا الْكَلَامَ شُبْهَةً طَاعِنَةً فِي صِحَّةِ دَعَوَاهُ ، فَأَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِأَنْ قَالَ : ذَلِكَ كَانَ حِلًّا
لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، إِلَّا أَنَّ
يَعْقُوبَ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبَقِيَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي أَوْلَادِهِ فَأَنْكَرَ الْيَهُودُ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ وَطَالَبَهُمْ بِأَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهَا آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَافْتَضَحُوا ، فَظَهَرَ عِنْدَ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي ادِّعَاءِ حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=146وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) [ الْأَنْعَامِ : 146 ] ، وَقَالَ أَيْضًا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) [ النِّسَاءِ : 160 ] ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى
الْيَهُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَقَبِيحِ فِعْلِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ حَرَامًا غَيْرَ الطَّعَامِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَرَّمَهُ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْيَهُودِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ حُرِّمَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبَاحَةً ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا
nindex.php?page=treesubj&link=31931مَوْصُوفِينَ بِقَبَائِحِ الْأَفْعَالِ ، فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْكَرُوا كَوْنَ حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَجَدِّدَةً ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا ، فَطَالَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فَعَجَزُوا عَنْهُ فَافْتَضَحُوا ، فَهَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكُلُّهُ حَسَنٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ ) أَيْ كُلُّ الْمَطْعُومَاتِ أَوْ كُلُّ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ ، وَأَقُولُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ أَمْ لَا ؟ .
[ ص: 121 ] ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ لَفْظَ " كُلُّ " عَلَى لَفْظِ الطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَلَوْلَا أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ قَائِمٌ مَقَامَ لَفْظِ الْمَطْعُومَاتِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ ذَلِكَ ، وَثَانِيهَا : أَنَّهُ اسْتَثْنَى عَنْهُ مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ ، فَلَوْلَا دُخُولُ كُلِّ الْأَقْسَامِ تَحْتَ لَفْظِ الطَّعَامِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ وَأَكَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) [ الْعَصْرِ : 2 ، 3 ] . وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ لَفْظُ الْجَمْعِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11رِزْقًا لِلْعِبَادِ ) [ ق : 10 ، 11 ] ، فَعَلَى هَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " ، أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ ، وَهُوَ الَّذِي نَظَّرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ احْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=34080_26316الطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خَاصَّةً ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَرَّمَهُ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ شَيْئًا سِوَى الْحِنْطَةِ ، وَسِوَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) [ الْبَقَرَةِ : 249 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) [ الْمَائِدَةِ : 5 ] ، وَأَرَادَ الذَّبَائِحَ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012110وَقَالَتْ nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ ، وَالْمُرَادُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31894_27931جَمِيعَ الْمَطْعُومَاتِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، ثُمَّ قَالَ
الْقَفَّالُ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ كَانَتِ الْمَيْتَةُ مُبَاحَةً لَهُمْ مَعَ أَنَّهَا طَعَامٌ ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْخِنْزِيرِ ، ثُمَّ قَالَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كَانَ يَدَّعِي
الْيَهُودُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى
إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الطَّعَامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، بَلْ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ) [ الْأَنْعَامِ : 145 ] ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَشْيَاءَ سَأَلُوا عَنْهَا فَعَرَفُوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا دُونَ غَيْرِهِ ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْحِلُّ مَصْدَرٌ ، يُقَالُ : حَلَّ الشَّيْءُ حِلًّا كَقَوْلِكَ : ذَلَّتِ الدَّابَّةُ ذِلًّا وَعَزَّ الرَّجُلُ عِزًّا ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=34080وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ ، فَهَاهُنَا الْحِلُّ وَالْمُحَلَّلُ وَاحِدٌ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي زَمْزَمَ هِيَ حِلٌّ وَبِلٌّ رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16008سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَسُئِلَ
سُفْيَانُ : مَا حِلٌّ ؟ فَقَالَ مُحَلَّلٌ .