nindex.php?page=treesubj&link=19995_28723_32026_32028_29004nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39الذين يبلغون رسالات الله صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح، وقرأ
عبد الله «بلغوا» فعلا ماضيا، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي «رسالة» على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى بمنزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها.
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39ويخشونه أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39ولا يخشون أحدا إلا الله في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث إن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك، وهذا كالتأكيد لما تقدم من التصريح في قوله سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى.
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39وكفى بالله حسيبا أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الكبائر والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير، واستدل بالآية على عدم جواز
nindex.php?page=treesubj&link=27271التقية على الأنبياء عليهم السلام مطلقا، وخص ذلك بعض
الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه، كما قاله
ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أنه قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط، وأن
أهل السنة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط، أما الإفراط
فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكي عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأما التفريط
فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا،
وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب، وقد سبوا وطعنوا
بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب.
ومذهب
أهل السنة أن
nindex.php?page=treesubj&link=27271التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة.
وقسموا العدو إلى قسمين:
الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر، ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر
كأهل السنة والشيعة .
والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة، وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين:
أما الأول: فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين حقيقة أو حكما وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار، ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف
[ ص: 29 ] فأرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج، وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا.
وأما الثاني: فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه، فقال بعضهم: تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض، وقال جمع: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين، إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن ، وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة: الحق أن الهجرة هاهنا قد تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته، وقال: إنها مع وجوبها ليست عبادة، إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها اه، وفيه بحث.
وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك.
بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل: إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عز وجل عن
موسى عليه السلام بأنه قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=45إننا نخاف أن يفرط علينا [طه: 45] وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى فما وجه الجمع؟ قلت: أجيب بأن الخشية أخص من الخوف، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته، وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكي عن
موسى عليه السلام، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادئ الرأي، وكم قد عرض مثله
لموسى عليه السلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن، وقيل: إن
موسى عليه السلام إنما خاف أن يعجل
فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف لله عز وجل، والمراد بما نفي عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك، فتأمل، تولى الله تعالى هداك.
nindex.php?page=treesubj&link=19995_28723_32026_32028_29004nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ صِفَةٌ لِلَّذِينَ خَلَوْا أَوْ هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِهِمْ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَرَأَ
عَبْدُ اللَّهِ «بَلَغُوا» فِعْلًا مَاضِيًا، وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=34أُبَيٌّ «رِسَالَةَ» عَلَى التَّوْحِيدِ لِجَعْلِ الرِّسَالَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِاتِّفَاقِهَا فِي الْأُصُولِ وَكَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اِخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39وَيَخْشَوْنَهُ أَيْ يَخَافُونَهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا يَأْتُونَ وَيَذَرُوَنَ لَا سِيَّمَا فِي أَمْرِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ فِي وَصْفِهِمْ بِقَصْرِهِمُ الْخَشْيَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْرِيضٌ بِمَا صَدَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْ لَائِمَةِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِخْوَانَهُ الْمُرْسَلِينَ لَمْ تَكُنْ سِيرَتُهُمِ الَّتِي يَنْبَغِي الِاقْتِدَاءُ بِهَا ذَلِكَ، وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْشَأَ التَّعْرِيضِ تَوْصِيفُ الْأَنْبِيَاءِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَاتِ وَحَمَلَ الْخَشْيَةَ عَلَى الْخَشْيَةِ فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِهِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى.
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا أَيْ كَافِيًا لِلْمَخَاوِفِ أَوْ مُحَاسِبًا عَلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْشَى غَيْرُهُ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا فِي هَذَا الِاسْمِ الْجَلِيلِ مَا لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=27271التَّقِيَّةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُطْلَقًا، وَخَصَّ ذَلِكَ بَعْضُ
الشِّيعَةِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَجَعَلُوا مَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ فِيهِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ تَزَوَّجَ زَوْجَةِ اِبْنِهِ، كَمَا قَالَهُ
اِبْنُ فُورَكَ مِنَ التَّقِيَّةِ الْجَائِزَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ خَوْفِ الْمَقَالَةِ الْقَبِيحَةِ وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ وَبَيْنَ خَوْفِ الْمَضَارِّ فِي أَنَّ كُلًّا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَلَهُمْ فِي التَّقِيَّةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَهِيَ لِأَغْرَاضِهِمْ ظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَالْمُتَتَبِّعُ لِكُتُبِ الْفِرَقِ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهَا إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَصَوَابٌ وَتَخْلِيطٌ، وَأَنَّ
أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَدْ سَلَكُوا فِيهَا الطَّرِيقَ الْوَسَطَ وَهُوَ الطَّرِيقُ الْأَسْلَمُ الْأَمِينُ سَالِكُهُ مِنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، أَمَّا الْإِفْرَاطُ
فَلِلشِّيعَةِ حَيْثُ جَوَّزُوا بَلْ أَوْجَبُوا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ إِظْهَارَ الْكُفْرِ لِأَدْنَى مَخَافَةٍ أَوْ طَمَعٍ، وَأَمَّا التَّفْرِيطُ
فَلِلْخَوَارِجِ وَالزَّيْدِيَّةِ حَيْثُ لَا يُجَوِّزُونَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّينِ مُرَاعَاةَ الْعِرْضِ وَحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ أَصْلًا،
وَلِلْخَوَارِجِ تَشْدِيدَاتٌ عَجِيبَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ سَبُّوا وَطَعَنُوا
بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ أَحَدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُحَافِظُ فَرَسَهُ فِي صِلَاتِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَهْرُبَ.
وَمَذْهَبُ
أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27271التَّقِيَّةَ وَهِيَ مُحَافَظَةُ النَّفْسِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَالِ مِنْ نَحْوِ الْأَعْدَاءِ بِإِظْهَارِ مَحْظُورٍ دِينِيٍّ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَسَّمُوا الْعَدُوَّ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى اِخْتِلَافِ الدِّينِ كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ اِخْتِلَافًا يَجُرُّ إِلَى تَكْفِيرِ أَصْحَابِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ
كَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ .
وَالثَّانِي: مَنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالْمَالِ وَالْمَرْأَةِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّقِيَّةُ أَيْضًا قِسْمَيْنِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّقِيَّةُ مِمَّنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى اِخْتِلَافِ الدِّينِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ إِذَا وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْإِظْهَارِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ هُنَالِكَ وَيَكْتُمَ دِينَهُ بِعُذْرِ الِاسْتِضْعَافِ
[ ص: 29 ] فَأَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسِعَةٌ، نَعَمْ إِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْعَمَى وَالْحَبْسِ وَتَخْوِيفِ الْمُخَالِفِ لَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ قَتْلِ وَلَدِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْقَتْلُ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ وُقُوعُ مَا خُوِّفَ بِهِ جَازَ لَهُ السُّكْنَى وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّخْوِيفُ كَذَلِكَ كَالتَّخْوِيفِ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ وَالضَّرْبِ الْقَلِيلِ الْغَيْرِ الْمُهْلِكِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمُوَافَقَةُ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَوْتُهُ كَانَ شَهِيدًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالتَّقِيَّةُ مِمَّنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَقَدِ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ وَعَدَمِهِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الْهِجْرَةُ لِوُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالْعِرْضِ، وَقَالَ جَمْعٌ: لَا تَجِبُ إِذِ الْهِجْرَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ مَصْلَحَةٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا يَعُودُ بِتَرْكِهَا نُقْصَانٌ فِي الدِّينِ، إِذِ الْعَدُوُّ الْمُؤْمِنُ كَيْفَمَا كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ لِعَدُوِّهِ الضَّعِيفِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَهُ بِالسُّوءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَجِلَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُحَاكَمَةِ: الْحَقُّ أَنَّ الْهِجْرَةَ هَاهُنَا قَدْ تَجِبُ أَيْضًا وَذَلِكَ إِذَا خَافَ هَلَاكَ نَفْسِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوِ الْإِفْرَاطَ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا مَعَ وُجُوبِهَا لَيْسَتْ عِبَادَةً، إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ عِبَادَةً يُثَابُ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمَجَاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَضَرَّاتِ الْمَعْلُومَةِ أَوِ الْمَظْنُونَةِ فِي الْمَرَضِ وَعَنْ تَنَاوُلِ السُّمُومَاتِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أُمُورٌ وَاجِبَةٌ وَلَا يُثَابُ فَاعِلُهَا عَلَيْهَا اه، وَفِيهِ بَحْثٌ.
وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ يُطْلَبُ مِنْ زُبُرِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَلَعَلَّ لَنَا عَوْدَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْهَادِي لِسُلُوكِ أَقْوَمِ الْمَسَالِكِ.
بَقِيَ لَنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ شَيْءٌ وَهُوَ مَا قِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ الْمُرْسَلِينَ الْخَالِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَقَدْ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=45إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا [طه: 45] وَهَلْ خَوْفُ ذَلِكَ إِلَّا خَشْيَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ؟ قُلْتُ: أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَشْيَةَ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14343الرَّاغِبُ : الْخَشْيَةُ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَفْيُ الْخَاصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعَامِّ فَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ إِثْبَاتِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّهَا الْخَوْفُ الشَّدِيدُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الْآيَةِ هَاهُنَا هُوَ ذَلِكَ لَا مُطْلَقُ الْخَوْفِ الْمُثْبَتِ فِيمَا حُكِيَ عَنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَجَابَ آخَرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَشْيَةِ الْمَنْفِيَّةِ الْخَوْفُ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْخَوْفُ الْمُثْبَتُ هُوَ الْخَوْفُ الْعَارِضُ بِحَسَبِ الْبَشَرِيَّةِ بَادِئَ الرَّأْيِ، وَكَمْ قَدْ عَرَضَ مِثْلُهُ
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ وَهُوَ مِمَّا لَا نَقْصَ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى كَامِلٍ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ: إِنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا خَافَ أَنْ يُعَجِّلَ
فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ بِمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِتْمَامِ الدَّعْوَةِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ فَهُوَ خَوْفٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُرَادُ بِمَا نُفِيَ عَنِ الْمُرْسَلِينَ هُوَ الْخَوْفُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ بِمَعْنَى أَنْ يَخَافَ غَيْرَهُ جَلَّ وَعَلَا فَيُخِلُّ بِطَاعَتِهِ أَوْ يُقْدِمُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ، فَتَأَمَّلْ، تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى هُدَاكَ.