nindex.php?page=treesubj&link=30364_30525_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182ذلك إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد ، وللإشارة إلى عظم شأنه ، وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونا باللام والكاف ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182بما قدمت أيديكم أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها ؛ كقتل الأنبياء ، وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه ، والمراد من الأيدي الأنفس ، والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه ، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب ،
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182وأن الله ليس بظلام للعبيد عطف على ما قدمت فهو داخل تحت حكم باء السببية ، وسببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ، ومعاقبة المسيء ، -وإليه ذهب الفحول من المفسرين- وتعقبه مولانا
شيخ الإسلام بقوله : وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب .
وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب ، لكن ترك التعذيب ليس بظلم ، فنفي الظلم لا يكون سببا له ، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلة الموجبة ، والفرق مثل الصبح ظاهر ، فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم -سبب الكتابة- غير موجب إياها ، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه .
فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا ، وأما قولهم في العدل المقتضي إلخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلى وطبعه ، وتقرير لكونه وسيلة ، ولا يلزم منه إيجاب الإثابة والمعاقبة على ما ينبئ عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687843nindex.php?page=treesubj&link=32491 "سبقت رحمتي غضبي " وخلاصة هذا أن
nindex.php?page=treesubj&link=21696الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ، ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور حينئذ .
لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول : إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182وأن الله إلخ فنقول : حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين ، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين ، وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه ، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما ، فنقول : هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب ، فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب كما قلنا ويرد عليه ما أوردناه ، ولا يكون من باب المفهوم في شيء ، وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه ، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب
[ ص: 143 ] عليكم ولم يترك بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببا لترك التعذيب من مستحقه ، ولا يدل على كون الظلم سببا لترك التعذيب ، بل له سبب آخر ، وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض ، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا ، فإن دلالة الكلام على كون الظلم سببا لترك التعذيب ، وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه ، على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى ، فدلالته عليه ظاهرة ؛ فإن وجود السبب الموجب كما يكون سببا لوجود المسبب يكون عدمه سببا لعدمه -كما في طلوع الشمس ووجود النهار ، فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببا لعدم التعذيب ، وقيل : إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم .
وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله : وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب ، بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى ، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله : أن يعذبهم ، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم ؛ فإنه أمر حسن شرعا وعقلا ، وقوله : للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة إلخ ، أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب ، فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر ، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى إلخ ناشئ عن الغفلة عن مراده ؛ فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما ، بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له ، وكذا قوله عقيب ذلك ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي إلخ ناشئ عن الغفلة أيضا ؛ لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم .
فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدا ، ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل ، وبين ما نقل أولا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببا وههنا قيدا للسبب ؛ لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة ، كما أشرنا إليه فيما سبق ، فهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا ، أو قيدا للسبب ، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر ، لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى .
والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر -وإليه ذهب من ذهب- ويجوز أن يجعل -وإليه ذهب شيخ الإسلام - (أن) وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها ، أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم ، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة
أهل السنة ، فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم ، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل : إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل
[ ص: 144 ] الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم ، فالمبالغة في ( ظلام ) باعتبار الكمية لا الكيفية ، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل ؛ لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا ، وبأن ( ظلام ) للنسب كعطار ، أي : لا ينسب إليه الظلم أصلا ، وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما ، فنفي اللازم لنفي الملزوم ، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك ، بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة ، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال ، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام .
nindex.php?page=treesubj&link=30364_30525_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُحَقَّقِ الْمُنْزَلِ مَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى عِظَمِ شَأْنِهِ ، وَبُعْدِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْهَوْلِ وَالْفَظَاعَةِ أَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مَقْرُونًا بِاللَّامِ وَالْكَافِ ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي قَدَّمْتُمُوهَا ؛ كَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ مِنْهُ ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَيْدِي الْأَنْفُسُ ، وَالتَّعْبِيرُ بِهَا عَنْهَا مِنْ قَبِيلِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ الَّذِي مَدَارُ جُلِّ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ، يَجُوزُ أَنْ لَا يُتَجَوَّزَ فِي الْأَيْدِي بَلْ يُجْعَلُ تَقْدِيمُهَا الَّذِي هُوَ عَمَلُهَا عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَكْثَرُهَا أَوِ الْكَثِيرُ مِنْهَا يُزَاوَلُ بِالْيَدِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَدَّمَتْ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ حُكْمِ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ ، وَسَبَبِيَّتُهُ لِلْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْعَدْلَ الْمُقْتَضِي إِثَابَةَ الْمُحْسِنِ ، وَمُعَاقَبَةَ الْمُسِيءِ ، -وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْفُحُولُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ- وَتَعَقَّبَهُ مَوْلَانَا
شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ : وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمٍ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا حَتَّى يَنْتَهِضَ نَفْيُ الظُّلْمِ سَبَبًا لِلتَّعْذِيبِ .
وَخُلَاصَتُهُ الْمُعَارَضَةُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَرْكُ التَّعْذِيبِ ظُلْمًا لَكَانَ نَفْيُ الظُّلْمِ سَبَبًا لِلتَّعْذِيبِ ، لَكِنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ لَيْسَ بِظُلْمٍ ، فَنَفْيُ الظُّلْمِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ ، وَالْفَرْقُ مِثْلَ الصُّبْحِ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمُسَبِّبِ كَمَا أَنَّ الْقَلَمَ -سَبَبُ الْكِتَابَةِ- غَيْرُ مُوجِبٍ إِيَّاهَا ، وَالْعَدْلُ اللَّازِمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ سَبَبٌ لِعَذَابِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ .
فَالِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ الْإِيجَابِ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ فَاسِدٌ جِدًّا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْعَدْلِ الْمُقْتَضِي إِلَخْ فَهُوَ بَيَانٌ لِمُقْتَضَاهُ إِذَا خَلَى وَطَبْعَهُ ، وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِيجَابُ الْإِثَابَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ عَلَى مَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687843nindex.php?page=treesubj&link=32491 "سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي " وَخُلَاصَةُ هَذَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21696الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ مَمْنُوعَةٌ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ تَرْكُ التَّعْذِيبِ ظُلْمًا ، وَيَكُونَ نَفْيُ الظُّلْمِ سَبَبًا بِأَنْ يَكُونَ السَّبَبُ سَبَبًا غَيْرَ مُوجِبٍ وَلَا مَحْذُورٍ حِينَئِذٍ .
لَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنَى ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى كَوْنِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِأَنَّا نَقُولُ : إِنْ أُرِيدَ بِالْمَفْهُومِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182وَأَنَّ اللَّهَ إِلَخْ فَنَقُولُ : حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَدْلَ سَبَبٌ لِعَذَابِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا نِزَاعَ فِيهِ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِنَا سَبَبُ تَعْذِيبِهِمْ كَوْنُهُ تَعَالَى غَيْرُ ظَالِمٍ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ لَكَانَ ظَالِمًا ، فَنَقُولُ : هُوَ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ سِيَاقِ كَلَامِ الْمُعْتَرِضِ مِنْ قُبَيْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِانْتِفَاءِ السَّبَبِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُسَبِّبِ ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالسَّبَبِ السَّبَبُ الْمُوجِبُ كَمَا قُلْنَا وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ ، وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمَفْهُومِ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُ هَذَا وَذَاكَ فَلْيُبَيَّنْ حَتَّى نَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ دَفَعَ الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ وَقْعُ الْعَذَابِ
[ ص: 143 ] عَلَيْكُمْ وَلَمْ يُتْرَكْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، وَهُوَ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ التَّعْذِيبِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الظُّلْمِ سَبَبًا لِتَرْكِ التَّعْذِيبِ ، بَلْ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ ، وَهُوَ لُطْفُهُ تَعَالَى فَلَا يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ بِأَنَّ هَذَا ذُهُولٌ عَنْ مَقْصُودِ الْمُعْتَرِضِ أَيْضًا ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِ الظُّلْمِ سَبَبًا لِتَرْكِ التَّعْذِيبِ ، وَعَدَمَهَا خَارِجٌ عَنْ مَطْمَحِ نَظَرِهِ عَلَى مَا عَرَفْتَ مِنْ تَقْرِيرِ كَلَامِهِ ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ عَلَى مَا هُوَ مَبْنَى كَلَامِ ذَلِكَ الْمَوْلَى ، فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ ؛ فَإِنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ كَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمُسَبِّبِ يَكُونُ عَدَمُهُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ -كَمَا فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوُجُودِ النَّهَارِ ، فَالْعَدْلُ أَعْنِي نَفْيَ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لِتَعْذِيبِ الْمُسْتَحِقِّ يَكُونُ عَدَمُهُ أَعْنِي الظُّلْمَ سَبَبًا لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا قَدَّمْتُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ سَبَبِيَّةَ ذُنُوبِهِمْ لِعَذَابِهِمْ مُقَيَّدَةٌ بِانْتِفَاءِ ظُلْمِهِ تَعَالَى إِذْ لَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِغَيْرِ ذُنُوبِهِمْ لَا أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .
وَتَعَقَّبَهُ أَيْضًا مَوْلَانَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ إِمْكَانَ تَعْذِيبِهِ تَعَالَى لِعَبِيدِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ، بَلْ وُقُوعُهُ لَا يُنَافِي كَوْنَ تَعْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَمِهِ مَعَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ تَعْذِيبَاتِهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْمُعَذَّبِينَ انْتَهَى ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي كَلَامِ الْقِيلِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : أَنَّ يُعَذِّبَهُمْ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْقَيْدِ رَفْعُ احْتِمَالِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِغَيْرِ ذُنُوبِهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ حَسَنٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَقَوْلُهُ : لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ سَبَبِيَّةَ ذُنُوبِهِمْ لِعَذَابِهِمْ مُقَيَّدَةٌ إِلَخْ ، أَرَادَ بِهِ أَنَّ تَعَيُّنَهُ لِلسَّبَبِيَّةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَذَا الْقَيْدِ إِذْ بِإِمْكَانِ تَعْذِيبِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّعْذِيبِ إِرَادَةَ الْعَذَابِ بِلَا ذَنْبٍ ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ عَذَابَكُمْ هَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ لَا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ تَزْيِيفَ الْمَوْلَى كَلَامَ صَاحِبِ الْقِيلِ بِأَنَّ إِمْكَانَ تَعْذِيبِهِ تَعَالَى إِلَخْ نَاشِئٌ عَنِ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَادِهِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ فِي مُنَافَاةِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ ذَاتِهِمَا ، بَلْ فِي مُنَافَاةِ احْتِمَالِ التَّعْذِيبِ بِلَا ذَنْبٍ لِتَعَيُّنِ سَبَبِيَّةِ الذُّنُوبِ لَهُ ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي إِلَخْ نَاشِئٌ عَنِ الْغَفْلَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي كُلٍّ مِنَ الصُّورَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْرِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَتَبْكِيتِهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ بِتَقْصِيرَاتِهِمْ بِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْعَذَابِ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ .
فَالْقَوْلُ بِالِاحْتِيَاجِ فِي صُورَةِ وَعَدَمُهُ فِي صُورَةٍ رَكِيكٌ جِدًّا ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ هَذَا الْقِيلِ ، وَبَيْنَ مَا نُقِلَ أَوَّلًا عَنْ فُحُولِ الْمُفَسِّرِينَ حَيْثُ جُعِلَ الْمَعْطُوفُ هُنَاكَ سَبَبًا وَهَهُنَا قَيْدًا لِلسَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْوَسِيلَةُ الْمَحْضَةُ ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ سَوَاءٌ اعْتُبِرَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا ، أَوْ قَيْدًا لِلسَّبَبِ ، نَعَمْ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَدَافُعٌ يَتَرَاءَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، لَكِنَّهُ أَيْضًا غَيْرُ وَارِدٍ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ بِحَوْلِهِ تَعَالَى .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَطْفَ هُنَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ -وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ- وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ -وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - (أَنْ) وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ تِذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا ، أَيْ : وَالْأَمْرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمُعَذِّبٍ لِعَبِيدِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْ قِبَلِهِمْ ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لَيْسَ بِظُلْمٍ عَلَى مَا تُقَرِّرُ مِنْ قَاعِدَةِ
أَهْلِ السُّنَّةِ ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظَالِمًا بَالِغًا لِبَيَانِ كَمَالِ نَزَاهَتِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِتَصْوِيرِهِ بِصُورَةِ مَا يَسْتَحِيلُ صُدُورُهُ عَنْهُ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ ، كَمَا يُعَبِّرُ عَنْ تَرْكِ الْإِثَابَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِإِضَاعَتِهَا مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ تَخَلُّفِهِ عَنْهَا إِضَاعَتُهَا ، وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْمَعْنَى بِإِبْرَازِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فِي صُورَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ : إِنَّ نَفْيَ نَفْسِ الظُّلْمِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ كَثْرَتِهِ ، وَنَفْيَ الْكَثْرَةِ لَا يَنْفِي أَصْلَهُ ، بَلْ رُبَّمَا يُشْعَرُ بِوُجُودِهِ ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ نَفْيٌ لِأَصِلِ
[ ص: 144 ] الظُّلْمِ وَكَثْرَتِهِ بِاعْتِبَارِ آحَادِ مَنْ ظُلِمَ ، فَالْمُبَالَغَةُ فِي ( ظَلَّامٍ ) بِاعْتِبَارِ الْكِمِّيَّةِ لَا الْكَيْفِيَّةِ ، وَبِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الظُّلْمُ الْكَثِيرُ انْتَفَى الْقَلِيلُ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَظْلِمْ يَظْلِمْ لِلِانْتِفَاعِ بِالظُّلْمِ ، فَإِذَا تُرِكَ كَثِيرُهُ مَعَ زِيَادَتِهِ نَفَعَهُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ كَانَ لِقَلِيلِهِ مَعَ قِلَّةِ نَفْعِهِ أَكْثَرُ تَرْكًا ، وَبِأَنَّ ( ظَلَّامٍ ) لِلنَّسَبِ كَعَطَّارٍ ، أَيْ : لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الظُّلْمُ أَصْلًا ، وَبِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى فِي أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى ظَالِمًا سُبْحَانَهُ لَكَانَ ظَلَّامًا ، فَنَفْيُ اللَّازِمِ لِنَفْيِ الْمَلْزُومِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ كَوْنَ الْمَفْرُوضِ ثُبُوتَهُ كَذَلِكَ ، بَلِ الْأَصْلُ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا فُرِضَ ثُبُوتُ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى تُفْرَضُ بِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْكَمَالِ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ إِنَّمَا يُوجِبُ عَدَمَ ثُبُوتِهَا لَا ثُبُوتُهَا نَاقِصَةً ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَتِمَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ .