ثم تجيء اللمسة الرابعة في إيقاع عميق، عن قدر الله، الذي لا يكون سواه:
nindex.php?page=treesubj&link=29028_30452_30455_33679nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. إن ذلك على الله يسير. [ ص: 3493 ] nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ..
إن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه، محسوب حسابه في كيانه.. لا مكان فيه للمصادفة. ولا شيء فيه جزاف. وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور.. وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم. فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا - نحن أبناء الفناء - نرى بها حدود الأشياء. فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها. حدود من الزمان وحدود من المكان. نحن لا نملك إدراك المطلق إلا في ومضات تتصل فيها أرواحنا بذلك المطلق، عن طريق غير الطريق الذي اعتدناه في إدراك الأشياء. فأما الله - سبحانه - فهو الحقيقة المطلقة التي تطلع جملة على هذا الوجود، بلا حدود ولا قيود. وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته كائن في علم الله جملة لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان. ولكل حادث موضعه في تصميمه الكلي المكشوف لعلم الله. فكل مصيبة - من خير أو شر فاللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير ولا بشر - تقع في الأرض كلها وفي أنفس البشر أو المخاطبين منهم يومها.. هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس في صورتها التي ظهرت بها..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إن ذلك على الله يسير ..
وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى. قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها. فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعا وتذهب معه حسرات عند الضراء. ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم ..
فاتساع أفق النظر، والتعامل مع الوجود الكبير، وتصور الأزل والأبد، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله، الثابتة في تصميم هذا الكون.. كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتا ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة. حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني.
إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود. ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير. فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به، وتمر بغيره، والأرض كلها.. ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود.. وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق. لازم بعضها لبعض. وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون.. حين يستقر هذا في تصوره وشعوره، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء. فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله. ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى. رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون!
وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون. فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله، وذكره بهذه وبتلك، والاعتدال في الفرح والحزن. قال
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة - رضي الله عنه - "ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا".. وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23والله لا يحب كل مختال فخور. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ..
[ ص: 3494 ] ووجه الصلة بين الحقيقة السابقة وبين الاختيال والفخر، ثم بين هذا وذلك وبين البخل والأمر بالبخل، هو أن من يشعر بأن كل ما يصيبه هو من أمر الله، لا يختال ولا يفخر بما يعطاه. ولا يبخل ولا يأمر بالبخل في عطاء. فأما الذي لا يشعر بتلك الحقيقة فيحسب أن ما يؤتاه من مال وقوة وجاه هو من كسبه فيفخر ويختال به; ثم يبخل كذلك ببذل شيء منه، ويحث غيره على البخل ليحقق مبدأه ومنهجه!
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ..
فمن ينفق فإنما ينفق لنفسه، ومن يستجب فإنما يستجيب لمصلحته. والله هو الغني فما به من حاجة إلى العباد المحاويج. والله هو الحميد بذاته فما يناله شيء من حمد الحامدين!
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة، يعرض باختصار خط سير الرسالة، وتاريخ هذه العقيدة، من لدن
نوح وإبراهيم; مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس; ملما بحال أهل الكتاب وأتباع
عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب. إن الله قوي عزيز. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون ..
فالرسالة واحدة في جوهرها، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق. وبعضهم أنزل عليه كتاب. والنص يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا معهم الكتاب بوصفهم وحدة، وبوصف الكتاب وحدة كذلك، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25والميزان .. مع الكتاب. فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال; وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة وحب الذات. فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25ليقوم الناس بالقسط .. فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته، لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء!
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ..
والتعبير (بأنزلنا الحديد) كالتعبير في موضع آخر بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث، فهي منزلة بقدره وتقديره. فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه.
[ ص: 3495 ] أنزل الله الحديد
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25فيه بأس شديد .. وهو قوة في الحرب والسلم
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25ومنافع للناس .. وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح; تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال.
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله، فهو نصر لمنهجه ودعوته، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25إن الله قوي عزيز ..
ولما انتهى من تقرير وحدة الرسالة في جوهرها وكتابها وميزانها عاد يقرر وحدتها في رجالها، فهم من ذرية
نوح وإبراهيم. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ..
فهي شجرة واحدة باسقة، متشابكة الفروع، فيها النبوة والكتاب. ممتدة من فجر البشرية منذ نوح، حتى إذا انتهت إلى
إبراهيم، تفرعت وامتدت وانبثقت النبوات من ذلك الفرع الكبير الذي صار أصلا باسقا ممتدا إلى آخر الرسالات.
فأما الذرية التي جاءتها النبوات والكتب فلم تكن على شاكلة واحدة:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ..
وهو تلخيص قصير لذلك الخط الطويل!
وقرب نهاية الخط يجيء
عيسى ابن مريم: nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم ..
أي على آثار السابقين من ذرية
نوح وإبراهيم. فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء
عيسى ابن مريم.
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا
عيسى بن مريم: nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة .. وهم الثمرة الطبيعية لدعوة
المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي، وشفافيتها الوضيئة ، والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة
عيسى عليه السلام، ممن أحسنوا اتباعه. وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي وعن وفد
نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق، مذ كانوا أتباع
عيسى بن مريم بحق.
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ..
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع
عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعادا عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء. ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع، وقناعة وعفة، وذكر وعبادة.. مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها.
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل:
[ ص: 3496 ] nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون ..
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال، ولا بالطقوس والمسوح. إنما يأخذهم بالعمل والنية، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك. وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور.
وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل; وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها إلى يوم الدين:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ..
ونداؤهم على هذا النحو:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم، واستحياء لمعنى الإيمان، وتذكير برعايته حق رعايته; واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب. وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله. فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص.. معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار.
اتقوا الله وآمنوا برسوله..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يؤتكم كفلين من رحمته .. أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب. فرحمة الله لا تتجزأ، ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها. ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28ويجعل لكم نورا تمشون به . وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله. هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر; فلا تتخبط، ولا تلتوي بها الطريق..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28نورا تمشون به ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28ويغفر لكم. والله غفور رحيم ... فالإنسان إنسان مهما وهب من النور. إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28والله غفور رحيم ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله . لتنالوا كفلين من رحمة الله. ويكون لكم ذلك النور تمشون به. وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله. وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .. فقد كان أهل الكتاب يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=135وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=111وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .. فالله يدعو الذين آمنوا إلى استحقاق رحمته وجنته وهبته ومغفرته حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، غير مقصور على قوم، ولا محجوز لطائفة، ولا محدود ولا قليل:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29والله ذو الفضل العظيم ..
وهي دعوة فيها تحضيض واستجاشة واستشارة للسباق إلى الجنة والرحمة. تختم بها السورة ختاما يتناسق مع سياقها كله، ومع الهتاف المكرر فيها لهذه القلوب كي تحقق إيمانها وتخشع لربها وتستجيب لتكاليف الإيمان في الأموال والأرواح. في تجرد وإخلاص.
[ ص: 3497 ] وبعد فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير. وهي في بدئها وسياقها وختامها; وفي إيقاعاتها وصورها وظلالها; وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة، وشوطا بعد شوط.. هي في هذا كله درس بديع لأصحاب هذه الدعوة، يعلمهم كيف يخاطبون الناس، وكيف يوقظون الفطرة، وكيف يستحيون القلوب!
إنها درس رباني من صانع القلوب، ومنزل القرآن، وخالق كل شيء بقدر. وفي هذه المدرسة الإلهية يتخرج الدعاة المستجابون الموفقون ...
انتهى الجزء السابع والعشرون
ويليه الجزء الثامن والعشرون مبدوءا بسورة المجادلة:
[ ص: 3498 ]
ثُمَّ تَجِيءُ اللَّمْسَةُ الرَّابِعَةُ فِي إِيقَاعٍ عَمِيقٍ، عَنْ قَدَرِ اللَّهِ، الَّذِي لَا يَكُونُ سِوَاهُ:
nindex.php?page=treesubj&link=29028_30452_30455_33679nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا. إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. [ ص: 3493 ] nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ..
إِنَّ هَذَا الْوُجُودَ مِنَ الدِّقَّةِ وَالتَّقْدِيرِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهِ حَادِثٌ إِلَّا وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قَبْلُ فِي تَصْمِيمِهِ، مَحْسُوبٌ حِسَابُهُ فِي كِيَانِهِ.. لَا مَكَانَ فِيهِ لِلْمُصَادَفَةِ. وَلَا شَيْءَ فِيهِ جُزَافٌ. وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَنْفُسِ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ الدَّقِيقِ كُلُّ حَدَثٍ سَيَظْهَرُ لِلْخَلَائِقِ فِي وَقْتِهِ الْمَقْدُورِ.. وَفِي عِلْمِ اللَّهِ لَا شَيْءَ مَاضٍ، وَلَا شَيْءَ حَاضِرٌ، وَلَا شَيْءَ قَادِمٌ. فَتِلْكَ الْفَوَاصِلُ الزَّمَنِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ مَعَالِمُ لَنَا - نَحْنُ أَبْنَاءَ الْفَنَاءِ - نَرَى بِهَا حُدُودَ الْأَشْيَاءِ. فَنَحْنُ لَا نُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ حُدُودٍ تُمَيِّزُهَا. حُدُودٌ مِنَ الزَّمَانِ وَحُدُودٌ مِنَ الْمَكَانِ. نَحْنُ لَا نَمْلِكُ إِدْرَاكَ الْمُطْلَقِ إِلَّا فِي وَمَضَاتٍ تَتَّصِلُ فِيهَا أَرْوَاحُنَا بِذَلِكَ الْمُطْلَقِ، عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي اعْتَدْنَاهُ فِي إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ. فَأَمَّا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ جُمْلَةً عَلَى هَذَا الْوُجُودِ، بِلَا حُدُودٍ وَلَا قُيُودٍ. وَهَذَا الْكَوْنُ وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَطْوَارٍ مُنْذُ نَشْأَتِهِ إِلَى نِهَايَتِهِ كَائِنٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ جُمْلَةً لَا حُدُودَ فِيهِ وَلَا فَوَاصِلَ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ. وَلِكُلِّ حَادِثٍ مَوْضِعُهُ فِي تَصْمِيمِهِ الْكُلِّيِّ الْمَكْشُوفِ لِعِلْمِ اللَّهِ. فَكُلُّ مُصِيبَةٍ - مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَاللَّفْظُ عَلَى إِطْلَاقِهِ اللُّغَوِيِّ لَا يَخْتَصُّ بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ - تَقَعُ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَفِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ أَوْ الْمُخَاطَبِينَ مِنْهُمْ يَوْمَهَا.. هِيَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ الْأَزَلِيِّ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْأَرْضِ وَظُهُورِ الْأَنْفُسِ فِي صُورَتِهَا الَّتِي ظَهَرَتْ بِهَا..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ..
وَقِيمَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ غَيْرَهَا حِينَ يَتَصَوَّرُ حَقِيقَةَ الْوُجُودِ الْكُبْرَى. قِيمَتُهَا فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَسْكُبَ فِيهَا السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْأَحْدَاثِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. فَلَا تَجْزَعُ الْجَزَعَ الَّذِي تَطِيرُ بِهِ شُعَاعًا وَتَذْهَبُ مَعَهُ حَسَرَاتٍ عِنْدَ الضَّرَّاءِ. وَلَا تَفْرَحُ الْفَرَحَ الَّذِي تُسْتَطَارُ بِهِ وَتَفْقِدُ الِاتِّزَانَ عِنْدَ السَّرَّاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ..
فَاتِّسَاعُ أُفُقِ النَّظَرِ، وَالتَّعَامُلُ مَعَ الْوُجُودِ الْكَبِيرِ، وَتَصَوُّرُ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، وَرُؤْيَةُ الْأَحْدَاثِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُقَدَّرَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ، الثَّابِتَةِ فِي تَصْمِيمِ هَذَا الْكَوْنِ.. كُلُّ أُولَئِكَ يَجْعَلُ النَّفْسَ أَفْسَحَ وَأَكْبَرَ وَأَكْثَرَ ثَبَاتًا وَرَزَانَةً فِي مُوَاجَهَةِ الْأَحْدَاثِ الْعَابِرَةِ. حِينَ تَتَكَشَّفُ لِلْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ وَهِيَ مَارَّةٌ بِهِ فِي حَرَكَةِ الْوُجُودِ الْكَوْنِيِّ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ يَجْزَعُ وَيُسْتَطَارُ وَتَسْتَخِفُّهُ الْأَحْدَاثُ حِينَ يَنْفَصِلُ بِذَاتِهِ عَنْ هَذَا الْوُجُودِ. وَيَتَعَامَلُ مَعَ الْأَحْدَاثِ كَأَنَّهَا شَيْءٌ عَارِضٌ يُصَادِمُ وُجُودَهُ الصَّغِيرَ. فَأَمَّا حِينَ يَسْتَقِرُّ فِي تَصَوُّرِهِ وَشُعُورِهِ أَنَّهُ هُوَ وَالْأَحْدَاثَ الَّتِي تَمُرُّ بِهِ، وَتَمُرُّ بِغَيْرِهِ، وَالْأَرْضَ كُلَّهَا.. ذَرَّاتٌ فِي جِسْمٍ كَبِيرٍ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ.. وَأَنَّ هَذِهِ الذَّرَّاتِ كَائِنَةٌ فِي مَوْضِعِهَا فِي التَّصْمِيمِ الْكَامِلِ الدَّقِيقِ. لَازِمٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقَدَّرٌ مَرْسُومٌ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمَكْنُونِ.. حِينَ يَسْتَقِرُّ هَذَا فِي تَصَوُّرِهِ وَشُعُورِهِ، فَإِنَّهُ يُحِسُّ بِالرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِمَوَاقِعِ الْقَدَرِ كُلِّهَا عَلَى السَّوَاءِ. فَلَا يَأْسَى عَلَى فَائِتٍ أَسًى يُضَعْضِعُهُ وَيُزَلْزِلُهُ، وَلَا يَفْرَحُ بِحَاصِلٍ فَرَحًا يَسْتَخِفُّهُ وَيُذْهِلُهُ. وَلَكِنْ يَمْضِي مَعَ قَدَرِ اللَّهِ فِي طَوَاعِيَةٍ وَفِي رِضًى. رِضَى الْعَارِفِ الْمُدْرِكِ أَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ!
وَهَذِهِ دَرَجَةٌ قَدْ لَا يَسْتَطِيعُهَا إِلَّا الْقَلِيلُونَ. فَأَمَّا سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ أَلَّا يُخْرِجَهُمُ الْأَلَمُ لِلضَّرَّاءِ، وَلَا الْفَرَحُ بِالسَّرَّاءِ عَنْ دَائِرَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ، وَذِكْرِهِ بِهَذِهِ وَبِتِلْكَ، وَالِاعْتِدَالِ فِي الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ. قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16584عِكْرِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صَبْرًا".. وَهَذَا هُوَ اعْتِدَالُ الْإِسْلَامِ الْمُيَسَّرِ لِلْأَسْوِيَاءِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ..
[ ص: 3494 ] وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ السَّابِقَةِ وَبَيْنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ، ثُمَّ بَيْنَ هَذَا وَذَلِكَ وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالْأَمْرِ بِالْبُخْلِ، هُوَ أَنَّ مَنْ يَشْعُرُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُ هُوَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَخْتَالُ وَلَا يَفْخَرُ بِمَا يُعْطَاهُ. وَلَا يَبْخَلُ وَلَا يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ فِي عَطَاءٍ. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَيَحْسَبُ أَنَّ مَا يُؤْتَاهُ مِنْ مَالٍ وَقُوَّةٍ وَجَاهٍ هُوَ مِنْ كَسْبِهِ فَيَفْخَرُ وَيَخْتَالُ بِهِ; ثُمَّ يَبْخَلُ كَذَلِكَ بِبَذْلِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَيُحِثُّ غَيْرَهُ عَلَى الْبُخْلِ لِيُحَقِّقَ مَبْدَأَهُ وَمَنْهَجَهُ!
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=24وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ..
فَمَنْ يُنْفِقْ فَإِنَّمَا يُنْفِقُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ يَسْتَجِبْ فَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِمَصْلَحَتِهِ. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ فَمَا بِهِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى الْعِبَادِ الْمَحَاوِيجِ. وَاللَّهُ هُوَ الْحَمِيدُ بِذَاتِهِ فَمَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ!
وَفِي النِّهَايَةِ يَجِيءُ الْمَقْطَعُ الْأَخِيرُ فِي السُّورَةِ، يَعْرِضُ بِاخْتِصَارٍ خَطَّ سَيْرِ الرِّسَالَةِ، وَتَارِيخَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، مِنْ لَدُنْ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ; مُقَرِّرًا حَقِيقَتَهَا وَغَايَتَهَا فِي دُنْيَا النَّاسِ; مُلِمًّا بِحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَتْبَاعِ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ. إِنَّ اللَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا، وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ، إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ..
فَالرِّسَالَةُ وَاحِدَةٌ فِي جَوْهَرِهَا، جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ وَمَعَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَيْهَا، وَمُعْظَمُهُمْ جَاءَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْخَوَارِقِ. وَبَعْضُهُمْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ. وَالنَّصُّ يَقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِوَصْفِهِمْ وَحْدَةً، وَبِوَصْفِ الْكِتَابِ وَحْدَةً كَذَلِكَ، إِشَارَةً إِلَى وَحْدَةِ الرِّسَالَةِ فِي جَوْهَرِهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَالْمِيزَانَ .. مَعَ الْكِتَابِ. فَكُلُّ الرِّسَالَاتِ جَاءَتْ لِتُقِرَّ فِي الْأَرْضِ وَفِي حَيَاةِ النَّاسِ مِيزَانًا ثَابِتًا تَرْجِعُ إِلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ، لِتَقْوِيمِ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْدَاثِ وَالْأَشْيَاءِ وَالرِّجَالِ; وَتُقِيمُ عَلَيْهِ حَيَاتَهَا فِي مَأْمَنٍ مِنِ اضْطِرَابِ الْأَهْوَاءِ وَاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ، وَتَصَادُمِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. مِيزَانًا لَا يُحَابِي أَحَدًا لِأَنَّهُ يَزِنُ بِالْحَقِّ الْإِلَهِيِّ لِلْجَمِيعِ، وَلَا يَحِيفُ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْجَمِيعِ.
هَذَا الْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي الرِّسَالَةِ هُوَ الضَّمَانُ الْوَحِيدُ لِلْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْعَوَاصِفِ وَالزَّلَازِلِ وَالِاضْطِرَابَاتِ وَالْخَلْخَلَةِ الَّتِي تَحِيقُ بِهَا فِي مُعْتَرَكِ الْأَهْوَاءِ وَمُضْطَرَبِ الْعَوَاطِفِ، وَمُصْطَخَبِ الْمُنَافَسَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مِيزَانٍ ثَابٍتٍ يَثُوبُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ، فَيَجِدُونَ عِنْدَهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالنَّصَفَةَ بِلَا مُحَابَاةٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. فَبِغَيْرِ هَذَا الْمِيزَانِ الْإِلَهِيِّ الثَّابِتِ فِي مَنْهَجِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ، لَا يَهْتَدِي النَّاسُ إِلَى الْعَدْلِ، وَإِنِ اهْتَدَوْا إِلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَيْدِيهِمْ مِيزَانُهُ، وَهِيَ تَضْطَرِبُ فِي مَهَبِّ الْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ..
وَالتَّعْبِيرُ (بِأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) كَالتَّعْبِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ . كِلَاهُمَا يُشِيرُ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ فِي خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَحْدَاثِ، فَهِيَ مُنَزَّلَةٌ بِقَدَرِهِ وَتَقْدِيرِهِ. فَوْقَ مَا فِيهِ هُنَا مِنْ تَنَاسُقٍ مَعَ جَوِّ الْآيَةِ، وَهُوَ جَوُّ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ، فَكَذَلِكَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرَ كِتَابِهِ وَمِيزَانِهِ.
[ ص: 3495 ] أَنْزَلَ اللَّهُ الْحَدِيدَ
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ .. وَهُوَ قُوَّةٌ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. وَتَكَادُ حَضَارَةُ الْبَشَرِ الْقَائِمَةُ الْآنَ تَقُومُ عَلَى الْحَدِيدِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ . وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ; تَجِيءُ فِي مَوْضِعِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْ بَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ.
وَلَمَّا تَحَدَّثَ عَنِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، عَقَّبَ عَلَى هَذَا بِإِيضَاحِ مَعْنَى نَصْرِهِمْ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ، فَهُوَ نَصْرٌ لِمَنْهَجِهِ وَدَعْوَتِهِ، أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يَحْتَاجُ مِنْهُمْ إِلَى نَصْرٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ..
وَلَمَّا انْتَهَى مِنْ تَقْرِيرِ وَحْدَةِ الرِّسَالَةِ فِي جَوْهَرِهَا وَكِتَابِهَا وَمِيزَانِهَا عَادَ يُقَرِّرُ وَحْدَتَهَا فِي رِجَالِهَا، فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ..
فَهِيَ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ بَاسِقَةٌ، مُتَشَابِكَةُ الْفُرُوعِ، فِيهَا النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ. مُمْتَدَّةٌ مِنْ فَجْرِ الْبَشَرِيَّةِ مُنْذُ نُوحٍ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ، تَفَرَّعَتْ وَامْتَدَّتْ وَانْبَثَقَتِ النُّبُوَّاتُ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْعِ الْكَبِيرِ الَّذِي صَارَ أَصْلًا بَاسِقًا مُمْتَدًّا إِلَى آخِرِ الرِّسَالَاتِ.
فَأَمَّا الذَّرِّيَّةُ الَّتِي جَاءَتْهَا النُّبُوَّاتُ وَالْكُتُبُ فَلَمْ تَكُنْ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=26فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ..
وَهُوَ تَلْخِيصٌ قَصِيرٌ لِذَلِكَ الْخَطِّ الطَّوِيلِ!
وَقُرْبِ نِهَايَةِ الْخَطِّ يَجِيءُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ..
أَيْ عَلَى آثَارِ السَّابِقِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. فَكَانَتِ الرِّسَالَةُ مُمْتَدَّةً وَاحِدَةً عَلَى إِثْرِ وَاحِدَةٍ حَتَّى جَاءَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
وَيَذْكُرُ هُنَا صِفَةً بَارِزَةً مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ: nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً .. وَهُمُ الثَّمَرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ لِدَعْوَةِ
الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرُوحِهَا السَّمْحَةِ وَتَطَهُّرِهَا الرُّوحِيِّ، وَشَفَافِيَّتِهَا الْوَضِيئَةِ ، وَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً بِرِسَالَةِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِمَّنْ أَحْسَنُوا اتِّبَاعَهُ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهَا آيَاتٌ أُخْرَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، كَمَا حَفِظَ مِنْهَا التَّارِيخُ صُوَرًا يَرْوِيهَا الرُّوَاةُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ وَعَنْ وَفْدِ
نَجْرَانَ وَعَنْ أَفْرَادٍ مِمَّنْ وَفَدُوا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ظُهُورِهِ رَاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ، بِحُكْمِ مَا اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، مُذْ كَانُوا أَتْبَاعَ
عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ بِحَقٍّ.
كَذَلِكَ يَذْكُرُ النَّصُّ هُنَا ظَاهِرَةً أُخْرَى عُرِفَتْ فِي تَارِيخِ أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا - مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ - إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ..
وَالرَّاجِحُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ الَّتِي عَرَفَهَا تَارِيخُ الْمَسِيحِيَّةِ كَانَتِ اخْتِيَارًا مِنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْتَدَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَابْتِعَادًا عَنْ أَوَضَارِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً. وَلَكِنَّهُمْ حِينَ اخْتَارُوهَا وَأَوْجَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ صَارُوا مُرْتَبِطِينَ أَمَامَ اللَّهِ بِأَنْ يَرْعَوْا حُقُوقَهَا، وَيُحَافِظُوا عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا مَنْ تَطَهُّرٍ وَتَرَفُّعٍ، وَقَنَاعَةٍ وَعِفَّةٍ، وَذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ.. مِمَّا يُحَقِّقُ فِي أَنْفُسِهِمْ حَقِيقَةَ التَّجَرُّدِ لِلَّهِ، الَّتِي قَصَدُوا إِلَيْهَا بِهَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا.
وَلَكِنَّهَا انْتَهَتْ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ فِي الْغَالِبِ طُقُوسًا وَشَعَائِرَ خَالِيَةً مِنَ الرُّوحِ، وَأَنْ يَتَّخِذَهَا الْكَثِيرُونَ مَظْهَرًا عَارِيًا مِنَ الْحَقِيقَةِ. فَلَا يَصْبِرُ عَلَى تَكَالِيفِهَا إِلَّا عَدَدٌ مِنْهُمْ قَلِيلٌ:
[ ص: 3496 ] nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ..
وَاللَّهُ لَا يَأْخُذُ النَّاسَ بِالْمَظَاهِرِ وَالْأَشْكَالِ، وَلَا بِالطُّقُوسِ وَالْمُسُوحِ. إِنَّمَا يَأْخُذُهُمْ بِالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ، وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الشُّعُورِ وَالسُّلُوكِ. وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَبَايَا الْقُلُوبِ وَذَوَاتِ الصُّدُورِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْعَرْضِ السَّرِيعِ يَجِيءُ الْهُتَافُ الْأَخِيرُ لِلَّذِينِ آمَنُوا، وَهُمُ الْحَلْقَةُ الْأَخِيرَةُ فِي سِلْسِلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِرِسَالَةِ اللَّهِ فِي تَارِيخِهَا الطَّوِيلِ; وَوَرَثَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلَ الْعَظِيمِ ..
وَنِدَاؤُهُمْ عَلَى هَذَا النَّحْوِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِيهِ لَمْسَةٌ خَاصَّةٌ لِقُلُوبِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءٌ لِمَعْنَى الْإِيمَانِ، وَتَذْكِيرٌ بِرِعَايَتِهِ حَقَّ رِعَايَتِهِ; وَاسْتِجَاشَةٌ لِلصِّلَةِ الَّتِي تَرْبُطُهُمْ بِرَبِّهِمُ الَّذِي يُنَادِيهِمْ هَذَا النِّدَاءَ الْكَرِيمَ الْحَبِيبَ. وَبِاسْمِ هَذِهِ الصِّلَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ. فَيَبْدُو لِلْإِيمَانِ الْمَطْلُوبِ مَعْنًى خَاصٌّ.. مَعْنَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَمَا يَنْبَثِقُ عَنْهَا مِنْ آثَارٍ.
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ .. أَيْ يُعْطِكُمْ نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَجِيبٌ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ لَا تَتَجَزَّأُ، وَمُجَرَّدُ مَسِّهَا لِإِنْسَانٍ يَمْنَحُهُ حَقِيقَتَهَا. وَلَكِنْ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ زِيَادَةُ امْتِدَادٍ لِلرَّحْمَةِ وَزِيَادَةُ فَيْضٍ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ . وَهِيَ هِبَةٌ لَدُنِّيَّةٌ يُودِعُهَا اللَّهُ الْقُلُوبَ الَّتِي تَسْتَشْعِرُ تَقْوَاهُ، وَتُؤْمِنُ حَقَّ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ. هِبَةٌ تُنِيرُ تِلْكَ الْقُلُوبَ فَتُشْرِقُ، وَتَرَى الْحَقِيقَةَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ وَالْحَوَاجِزِ، وَمِنْ وَرَاءِ الْأَشْكَالِ وَالْمَظَاهِرِ; فَلَا تَتَخَبَّطُ، وَلَا تَلْتَوِي بِهَا الطَّرِيقُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ... فَالْإِنْسَانُ إِنْسَانٌ مَهْمَا وُهِبَ مِنَ النُّورِ. إِنْسَانٌ يُقَصِّرُ حَتَّى لَوْ عَرَفَ الطَّرِيقَ. إِنْسَانٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ فَتُدْرِكُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ . لِتَنَالُوا كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَيَكُونَ لَكُمْ ذَلِكَ النُّورُ تَمْشُونَ بِهِ. وَتُدْرِكَكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ الذَّنْبِ وَالتَّقْصِيرِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِنْ يَشَاءُ .. فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللَّهِ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=135وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=111وَقَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .. فَاللَّهُ يَدْعُو الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى اسْتِحْقَاقِ رَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ وَهِبَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى احْتِجَازِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ، غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى قَوْمٍ، وَلَا مَحْجُوزٍ لِطَائِفَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ وَلَا قَلِيلٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ..
وَهِيَ دَعْوَةٌ فِيهَا تَحْضِيضٌ وَاسْتِجَاشَةٌ وَاسْتِشَارَةٌ لِلسِّبَاقِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ. تُخْتَمُ بِهَا السُّورَةُ خِتَامًا يَتَنَاسَقُ مَعَ سِيَاقِهَا كُلِّهِ، وَمَعَ الْهُتَافِ الْمُكَرَّرِ فِيهَا لِهَذِهِ الْقُلُوبِ كَيْ تُحَقِّقَ إِيمَانَهَا وَتَخْشَعَ لِرَبِّهَا وَتَسْتَجِيبَ لِتَكَالِيفِ الْإِيمَانِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ. فِي تَجَرُّدٍ وَإِخْلَاصٍ.
[ ص: 3497 ] وَبَعْدُ فَهَذِهِ السُّورَةُ نَمُوذَجٌ مِنَ النَّمَاذِجِ الْقُرْآنِيَّةِ الْوَاضِحَةِ فِي خِطَابِ الْقُلُوبِ الْبَشَرِيَّةِ، وَاسْتَجَاشَتِهَا بِأُسْلُوبٍ عَمِيقِ التَّأْثِيرِ. وَهِيَ فِي بَدْئِهَا وَسِيَاقِهَا وَخِتَامِهَا; وَفِي إِيقَاعَاتِهَا وَصُوَرِهَا وَظِلَالِهَا; وَفِي طَرِيقَةِ تَنَاوُلِهَا لِلْمَوْضُوعِ وَسَيْرِهَا فِيهِ جَوْلَةً بَعْدَ جَوْلَةٍ، وَشَوْطًا بَعْدَ شَوْطٍ.. هِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ دَرْسٌ بَدِيعٌ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يُخَاطِبُونَ النَّاسَ، وَكَيْفَ يُوقِظُونَ الْفِطْرَةَ، وَكَيْفَ يَسْتَحْيُونَ الْقُلُوبَ!
إِنَّهَا دَرْسٌ رَبَّانِيٌّ مِنْ صَانِعِ الْقُلُوبِ، وَمُنْزِلِ الْقُرْآنِ، وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ. وَفِي هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ الْإِلَهِيَّةِ يَتَخَرَّجُ الدُّعَاةُ الْمُسْتَجَابُونَ الْمُوَفَّقُونَ ...
انْتَهَى الْجُزْءُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مَبْدُوءًا بِسُورَةِ الْمُجَادَلَةِ:
[ ص: 3498 ]