إن الله - سبحانه - يذكر
عيسى بن مريم في مواجهة قومه يوم الحشر وعلى مشهد من العالمين بفضله عليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ . .
لقد كان الحواريون - وهم تلاميذ
المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به - يعرفون أنه بشر . .
ابن مريم . . وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة . وكانوا يعرفون أنه ليس ربا وإنما هو عبد مربوب لله . وأنه ليس ابن الله ، إنما هو
ابن مريم ومن عبيد الله ; وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه ، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة . . لذلك حين طلبوا إليه ، أن تنزل عليهم مائدة من السماء ، لم يطلبوها منه ، فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة . وإنما سألوه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ . .
واختلفت التأويلات في قولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112هل يستطيع ربك . . كيف سألوا بهذه الصيغة بعد إيمانهم بالله وإشهاد
عيسى - عليه السلام - على إسلامهم له . وقيل : إن معنى يستطيع ليس (يقدر ) ولكن المقصود هو لازم الاستطاعة وهو أن ينزلها عليهم . وقيل : إن معناها : هل يستجيب لك إذا طلبت . وقرئت :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112هل يستطيع ربك . بمعنى هل تملك أنت أن تدعو ربك لينزل علينا مائدة من السماء . .
وعلى أية حال فقد رد عليهم
عيسى - عليه السلام - محذرا إياهم من طلب هذه الخارقة . . لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق ، ولا يقترحون على الله .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . .
[ ص: 1000 ] ولكن الحواريين كرروا الطلب ، معلنين عن علته وأسبابه وما يرجون من ورائه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين .
فهم يريدون أن يأكلوا من هذا الطعام الفريد الذي لا نظير له عند أهل الأرض . وتطمئن قلوبهم برؤية هذه الخارقة وهي تتحقق أمام أعينهم ; ويستيقنوا أن
عيسى عليه السلام قد صدقهم ، ثم يكونوا شهودا لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة .
وكلها أسباب كما قلنا تصور مستوى معينا دون مستوى أصحاب
محمد - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء طراز آخر بالموازنة مع هذا الطراز !
عندئذ اتجه
عيسى - عليه السلام - إلى ربه يدعوه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114قال عيسى ابن مريم: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين . .
وفي دعاء
عيسى - بن مريم - كما يكرر السياق القرآني هذه النسبة
nindex.php?page=treesubj&link=33177أدب العبد المجتبى مع إلهه ومعرفته بربه . فهو يناديه : يا الله . يا ربنا . إنني أدعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء ، تعمنا بالخير والفرحة كالعيد ، فتكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ; وأن هذا من رزقك فارزقنا وأنت خير الرازقين . . فهو إذن يعرف أنه عبد ; وأن الله ربه . وهذا الاعتراف يعرض على مشهد من العالمين ، في مواجهة قومه ، يوم المشهد العظيم !
واستجاب الله دعاء عبده الصالح
عيسى بن مريم ; ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه . . لقد طلبوا خارقة . واستجاب الله . على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابا شديدا بالغا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=115قال الله: إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . .
فهذا هو الجد اللائق بجلال الله ; حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهوا . وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع ! وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة . . فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا ، أو أن يكون في الآخرة .
إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يُذَكِّرُ
عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ فِي مُوَاجَهَةِ قَوْمِهِ يَوْمَ الْحَشْرِ وَعَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟ . .
لَقَدْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ - وَهُمْ تَلَامِيذُ
الْمَسِيحِ وَأَقْرَبُ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ وَأَعْرَفُهُمْ بِهِ - يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَشَرٌ . .
ابْنُ مَرْيَمَ . . وَيُنَادُونَهُ بِمَا يَعْرِفُونَهُ عَنْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ . وَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبًّا وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ . وَأَنَّهُ لَيْسَ ابْنُ اللَّهِ ، إِنَّمَا هُوَ
ابْنُ مَرْيَمَ وَمِنْ عَبِيدِ اللَّهِ ; وَكَانُوا يَعْرِفُونَ كَذَلِكَ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الَّذِي يَصْنَعُ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْخَوَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَصْنَعُهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِقُدْرَتِهِ الْخَاصَّةِ . . لِذَلِكَ حِينَ طَلَبُوا إِلَيْهِ ، أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنْهُ ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بِذَاتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْخَارِقَةِ . وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟ . .
وَاخْتَلَفَتِ التَّأْوِيلَاتُ فِي قَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ . . كَيْفَ سَأَلُوا بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَإِشْهَادِ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى إِسْلَامِهِمْ لَهُ . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى يَسْتَطِيعُ لَيْسَ (يَقْدِرُ ) وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ لَازِمُ الِاسْتِطَاعَةِ وَهُوَ أَنْ يُنَزِّلَهَا عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهَا : هَلْ يَسْتَجِيبُ لَكَ إِذَا طَلَبْتَ . وَقُرِئَتْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ . بِمَعْنَى هَلْ تَمْلِكُ أَنْتَ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ لِيُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ . .
وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُحَذِّرًا إِيَّاهُمْ مِنْ طَلَبِ هَذِهِ الْخَارِقَةِ . . لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَطْلُبُونَ الْخَوَارِقَ ، وَلَا يَقْتَرِحُونَ عَلَى اللَّهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=112قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . .
[ ص: 1000 ] وَلَكِنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَرَّرُوا الطَّلَبَ ، مُعْلِنِينَ عَنْ عِلَّتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَمَا يَرْجُونَ مِنْ وَرَائِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا، وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ .
فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَذَا الطَّعَامِ الْفَرِيدِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ . وَتَطْمْئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِرُؤْيَةِ هَذِهِ الْخَارِقَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ أَمَامَ أَعْيُنِهِمْ ; وَيَسْتَيْقِنُوا أَنَّ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صَدَقَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُوا شُهُودًا لَدَى بَقِيَّةِ قَوْمِهِمْ عَلَى وُقُوعِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ .
وَكُلُّهَا أَسْبَابٌ كَمَا قُلْنَا تُصَوِّرُ مُسْتَوًى مُعَيَّنًا دُونَ مُسْتَوَى أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَؤُلَاءِ طِرَازٌ آخَرُ بِالْمُوَازَنَةِ مَعَ هَذَا الطِّرَازِ !
عِنْدَئِذٍ اتَّجَهَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى رَبِّهِ يَدْعُوهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا، وَآيَةً مِنْكَ، وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . .
وَفِي دُعَاءِ
عِيسَى - بْنِ مَرْيَمَ - كَمَا يُكَرِّرُ السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ هَذِهِ النِّسْبَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=33177أَدَبُ الْعَبْدِ الْمُجْتَبَى مَعَ إِلَهِهِ وَمَعْرِفَتُهُ بِرَبِّهِ . فَهُوَ يُنَادِيهِ : يَا اللَّهُ . يَا رَبَّنَا . إِنَّنِي أَدْعُوكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ، تَعُمُّنَا بِالْخَيْرِ وَالْفَرِحَةِ كَالْعِيدِ ، فَتَكُونَ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ; وَأَنَّ هَذَا مِنْ رِزْقِكَ فَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . . فَهُوَ إِذَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ ; وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ . وَهَذَا الِاعْتِرَافُ يُعْرَضُ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ، فِي مُوَاجَهَةِ قَوْمِهِ ، يَوْمَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ !
وَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ عَبْدِهِ الصَّالِحَ
عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ; وَلَكِنْ بِالْجِدِّ اللَّائِقِ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ . . لَقَدْ طَلَبُوا خَارِقَةً . وَاسْتَجَابَ اللَّهُ . عَلَى أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ يَكْفُرُ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْخَارِقَةِ عَذَابًا شَدِيدًا بَالِغًا فِي شِدَّتِهِ لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=115قَالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ، فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . .
فَهَذَا هُوَ الْجِدُّ اللَّائِقُ بِجَلَالِ اللَّهِ ; حَتَّى لَا يُصْبِحَ طَلَبُ الْخَوَارِقِ تَسْلِيَةً وَلَهْوًا . وَحَتَّى لَا يَمْضِيَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَعْدَ الْبُرْهَانِ الْمُفْحِمِ دُونَ جَزَاءٍ رَادِعٍ ! وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ بِهَلَاكِ مَنْ يُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ بَعْدَ الْمُعْجِزَةِ . . فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ النَّصَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ .