وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله، ونبذل الجهد كله، ونبلغ من هذا شيئا. فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء، ليتدبرها كل قلب، ويمضي على إثرها قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر، وهي إحدى آلاء الله، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص..
[ ص: 2900 ] ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها: مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله; وهي لا تعلم نبأ موته، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه، التي كان مرتكزا عليها، وسقوطه:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ..
وقد روي أنه كان متكئا على عصاه حين وافاه أجله; والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد; فلم تدرك أنه مات، حتى جاءت دابة الأرض. قيل إنها الأرضة، التي تتغذى بالأخشاب، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة، في الأماكن التي تعيش فيها. وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفا من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر. فلما نخرت عصا
سليمان لم تحمله فخر على الأرض. وحينئذ فقط علمت الجن موته. وعندئذ
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ..
فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله. وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب; وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد!
وفي قصة آل
داود تعرض صفحة الإيمان بالله والشكر على أفضاله وحسن التصرف في نعمائه. والصفحة المقابلة هي صفحة
سبأ. وقد مضى في سورة النمل ما كان بين
سليمان وبين ملكتهم من قصص. وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة
سليمان. مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين
سليمان من خبر.
يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر
سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق. وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع
سليمان في ملك عظيم، وفي خير عميم. ذلك إذ يقص الهدهد على
سليمان: nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم. nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله .. وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع
سليمان لله رب العالمين. فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله; وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم.
وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طلب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال. كلوا من رزق ربكم واشكروا له. بلدة طيبة ورب غفور ..
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي
اليمن; وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق، فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها وفق حاجتهم. فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم. وقد عرف باسم: "
سد مأرب " .
وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب. وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين:
[ ص: 2901 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15كلوا من رزق ربكم واشكروا له ..
وذكروا بالنعمة. نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بلدة طيبة ورب غفور ..
سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء. وسماحة في السماء بالعفو والغفران. فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران؟
ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل: خمط وأثل وشيء من سدر قليل ..
أعرضوا عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه; وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت; ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت. وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل: خمط وأثل وشيء من سدر قليل ..
والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك. والأثل شجر يشبه الطرفاء. والسدر النبق. وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل!
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17ذلك جزيناهم بما كفروا ..
والأرجح أنه كفران النعمة..
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17وهل نجازي إلا الكفور ..
وكانوا إلى هذا الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم. ضيق الله عليهم في الرزق، وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة; ولكنه لم يمزقهم ولم يفرقهم. وكان العمران ما يزال متصلا بينهم وبين القرى المباركة:
مكة في
الجزيرة، وبيت المقدس في
الشام. فقد كانت
اليمن ما تزال عامرة في شمال بلاد
سبأ ومتصلة بالقرى المباركة. والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير. سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ..
وقيل كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام. فكان السفر فيها محدود المسافات، مأمونا على المسافرين. كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب المحطات في الطريق.
وغلبت الشقوة على
سبأ، فلم ينفعهم النذير الأول; ولم يوجههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء. بل دعوا دعوة الحمق والجهل:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ..
تطلبوا الأسفار البعيدة المدى; التي لا تقع إلا مرات متباعدة على مدار العام. لا تلك السفرات القصيرة المتداخلة المنازل، التي لا تشبع لذة الرحلات! وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19وظلموا أنفسهم ..
واستجيبت دعوتهم، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر:
[ ص: 2902 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ..
شردوا ومزقوا; وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل; وعادوا أحاديث يرويها الرواة، وقصة على الألسنة والأفواه. بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ..
يذكر الصبر إلى جوار الشكر.. الصبر في البأساء. والشكر في النعماء. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
هذا فهم في الآية. وهناك فهم آخر. فقد يكون المقصود بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة .. أي قرى غالبة ذات سلطان. بينما تحول سبأ إلى قوم فقراء، حياتهم صحراوية جافة. وكثرت أسفارهم وانتقالاتهم وراء المراعي ومواضع الماء. فلم يصبروا على الابتلاء. وقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19ربنا باعد بين أسفارنا .. أي قلل من أسفارنا فقد تعبنا. ولم يصحبوا هذا الدعاء باستجابة وإنابة لله تستحق استجابته لدعائهم. وكانوا قد بطروا النعمة، ولم يصبروا للمحنة. ففعل الله بهم ما فعل، ومزقهم كل ممزق; فأصبحوا أثرا بعد عين، وحديثا يروى وقصة تحكى.. ويكون التعقيب:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .. مناسبا لقلة شكرهم على النعمة، وقلة صبرهم على المحنة.. وهو وجه رأيته في الآية والله أعلم بمراده.
وفي ختام القصة يخرج النص من إطار القصة المحدود، إلى إطار التدبير الإلهي العام، والتقدير المحكم الشامل، والسنة الإلهية العامة; ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه. إلا فريقا من المؤمنين. nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وربك على كل شيء حفيظ ..
لقد سلك القوم هذا المسلك، الذي انتهى إلى تلك النهاية، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم، فأغواهم،
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين .. كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية; وتثبت أن هنالك حقا ثابتا يعرفه من يطلبه; ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به، حتى في أحلك الظروف. وما كان لإبليس من سلطان قاهر عليهم لا يملكون رفعه. فليس هنالك قهر لهم منه ولا سيطرة عليهم له. إنما هو تسليطه عليهم ليثبت على الحق من يثبت، وليزيغ منهم من لا يبتغي الحق ويتحراه. وليظهر في عالم الواقع
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21من يؤمن بالآخرة فيعصمه إيمانه من الانحراف،
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21ممن هو منها في شك .. فهو يتأرجح أو يستجيب للغواية. بلا عاصم من رقابة لله ولا تطلع لليوم الآخر.
والله يعلم ما يقع قبل ظهوره للناس. ولكنه سبحانه يرتب الجزاء على ظهوره ووقوعه فعلا في دنيا الناس.
وفي هذا المجال الواسع المفتوح. مجال تقدير الله وتدبيره للأمور والأحداث. ومجال غواية إبليس للناس، بلا سلطان قاهر عليهم، إلا تسليطه ليظهر المكنون في علم الله من المصائر والنتائج.. في هذا المجال الواسع تتصل قصة سبأ بقصة كل قوم، في كل مكان وفي كل زمان. ويتسع مجال النص القرآني ومجال هذا التعقيب، فلا يعود قاصرا على قصة سبأ، إنما يصلح تقريرا لحال البشر أجمعين. فهي قصة الغواية والهداية وملابساتهما وأسبابهما وغاياتهما ونتائجهما في كل حال.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وربك على كل شيء حفيظ ..
[ ص: 2903 ] فلا يند شيء ولا يغيب، ولا يهمل شيء ولا يضيع..
وهكذا تنتهي الجولة الثانية في السورة بالحديث عن الآخرة كما انتهت الجولة الأولى. وبالتركيز على علم الله وحفظه. وهما الموضوعان اللذان يشتد عليهما التركيز في السورة والتوكيد.
وَحِينَ نَمْضِي نَسْتَعْرِضُ آلَاءَ اللَّهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَإِنَّنَا نُنْفِقُ الْعُمْرَ كُلَّهُ، وَنَبْذُلُ الْجُهْدَ كُلَّهُ، وَنَبْلُغُ مِنْ هَذَا شَيْئًا. فَنَكْتَفِي إِذَنْ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ الْمُوحِيَةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ، لِيَتَدَبَّرَهَا كُلُّ قَلْبٍ، وَيَمْضِيَ عَلَى إِثْرِهَا قَدْرَ مَا يُوَفِّقُهُ اللَّهُ لِنِعْمَةِ الشُّكْرِ، وَهِيَ إِحْدَى آلَاءِ اللَّهِ، يُوَفِّقُ إِلَيْهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِالتَّوَجُّهِ وَالتَّجَرُّدِ وَالْإِخْلَاصِ..
[ ص: 2900 ] ثُمَّ نَمْضِي مَعَ نُصُوصِ الْقِصَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي الْمَشْهَدِ الْأَخِيرِ مِنْهَا: مَشْهَدِ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ وَالْجِنُّ مَاضِيَةٌ تَعْمَلُ بِأَمْرِهِ فِيمَا كَلَّفَهَا عَمَلَهُ; وَهِيَ لَا تَعْلَمُ نَبَأَ مَوْتِهِ، حَتَّى يَدُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَكْلُ الْأَرَضَةِ لِعَصَاهُ، الَّتِي كَانَ مُرْتَكِزًا عَلَيْهَا، وَسُقُوطُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ..
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ حِينَ وَافَاهُ أَجْلُهُ; وَالْجِنُّ تَرُوحُ وَتَجِيءُ مُسَخَّرَةً فِيمَا كَلَّفَهَا إِيَّاهُ مِنْ عَمَلٍ شَاقٍّ شَدِيدٍ; فَلَمْ تُدْرِكْ أَنَّهُ مَاتَ، حَتَّى جَاءَتْ دَابَّةُ الْأَرْضِ. قِيلَ إِنَّهَا الْأَرَضَةُ، الَّتِي تَتَغَذَّى بِالْأَخْشَابِ، وَهِيَ تَلْتَهِمُ أَسْقُفَ الْمَنَازِلِ وَأَبْوَابِهَا وَقَوَائِمِهَا بِشَرَاهَةٍ فَظِيعَةٍ، فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا. وَفِي صَعِيدِ مِصْرَ قُرًى تُقِيمُ مَنَازِلَهَا دُونَ أَنْ تَضَعَ فِيهَا قِطْعَةَ خَشَبٍ وَاحِدَةً خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الْحَشَرَةِ الَّتِي لَا تُبْقِي عَلَى الْمَادَّةِ الْخَشَبِيَّةِ وَلَا تَذْرُ. فَلَمَّا نَخَرَتْ عَصَا
سُلَيْمَانَ لَمْ تَحْمِلْهُ فَخَرَّ عَلَى الْأَرْضِ. وَحِينَئِذٍ فَقَطْ عَلِمَتِ الْجِنُّ مَوْتَهُ. وَعِنْدَئِذٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ..
فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمْ بَعْضُ النَّاسِ. هَؤُلَاءِ هُمْ سُخْرَةٌ لَعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الْغَيْبِ الْقَرِيبِ; وَبَعْضُ النَّاسِ يَطْلُبُ عِنْدَهُمْ أَسْرَارَ الْغَيْبِ الْبَعِيدِ!
وَفِي قِصَّةِ آلِ
دَاوُدَ تُعْرَضُ صَفْحَةُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالشُّكْرِ عَلَى أَفْضَالِهِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي نَعْمَائِهِ. وَالصَّفْحَةُ الْمُقَابَلَةُ هِيَ صَفْحَةُ
سَبَأٍ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ مَا كَانَ بَيْنَ
سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ مَلِكَتِهِمْ مِنْ قَصَصٍ. وَهُنَا يَجِيءُ نَبَؤُهُمْ بَعْدَ قِصَّةِ
سُلَيْمَانَ. مِمَّا يُوحِي بِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا وَقَعَتْ بَعْدَ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
سُلَيْمَانَ مِنْ خَبَرٍ.
يُرَجِّحُ هَذَا الْفَرْضَ أَنَّ الْقِصَّةَ هُنَا تَتَحَدَّثُ عَنْ بَطَرِ
سَبَأٍ بِالنِّعْمَةِ وَزَوَالِهَا عَنْهُمْ وَتَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَمَزُّقِهِمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. وَهُمْ كَانُوا عَلَى عَهْدِ الْمَلِكَةِ الَّتِي جَاءَ نَبَؤُهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ مَعَ
سُلَيْمَانَ فِي مُلَكٍ عَظِيمٍ، وَفِي خَيْرٍ عَمِيمٍ. ذَلِكَ إِذْ يَقُصُّ الْهُدْهُدُ عَلَى
سُلَيْمَانَ: nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. وَقَدْ أَعْقَبَ ذَلِكَ إِسْلَامُ الْمَلِكَةِ مَعَ
سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَالْقِصَّةُ هُنَا تَقَعُ أَحْدَاثُهَا بَعْدَ إِسْلَامِ الْمَلِكَةِ لِلَّهِ; وَتَحْكِي مَا حَلَّ بِهِمْ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ شُكْرِهِ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ.
وَتَبْدَأُ الْقِصَّةُ بِوَصْفِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ رِزْقٍ وَرَغَدٍ وَنَعِيمٍ، وَمَا طُلِبَ إِلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِقَدْرِ مَا يُطِيقُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ..
وَسَبَأٌ اسْمٌ لِقَوْمٍ كَانُوا يَسْكُنُونَ جَنُوبِيَّ
الْيَمَنِ; وَكَانُوا فِي أَرْضٍ مُخَصِبَةٍ مَا تَزَالُ مِنْهَا بَقِيَّةً إِلَى الْيَوْمِ. وَقَدِ ارْتَقَوْا فِي سُلَّمِ الْحَضَارَةِ حَتَّى تَحَكَّمُوا فِي مِيَاهِ الْأَمْطَارِ الْغَزِيرَةِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فِي الْجَنُوبِ وَالشَّرْقِ، فَأَقَامُوا خَزَّانًا طَبِيعِيًّا يَتَأَلَّفُ جَانِبَاهُ مِنْ جَبَلَيْنِ، وَجَعَلُوا عَلَى فَمِ الْوَادِي بَيْنَهُمَا سَدًّا بِهِ عُيُونٌ تَفْتَحُ وَتُغْلِقُ، وَخَزَّنُوا الْمَاءَ بِكَمِّيَّاتٍ عَظِيمَةٍ وَرَاءَ السَّدِّ، وَتَحْكَّمُوا فِيهَا وَفْقَ حَاجَتِهِمْ. فَكَانَ لَهُمْ مِنْ هَذَا مَوْرِدٌ مَائِيٌّ عَظِيمٌ. وَقَدْ عُرِفَ بِاسْمِ: "
سَدِّ مَأْرِبٍ " .
وَهَذِهِ الْجِنَانُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ رَمْزٌ لِذَلِكَ الْخِصْبِ وَالْوَفْرَةِ وَالرَّخَاءِ وَالْمَتَاعِ الْجَمِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ آيَةً تُذَكِّرُ بِالْمُنْعِمِ الْوَهَّابِ. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِرِزْقِ اللَّهِ شَاكِرِينَ:
[ ص: 2901 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ..
وَذُكِّرُوا بِالنِّعْمَةِ. نِعْمَةِ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ وَفَوْقَهَا نِعْمَةِ الْغُفْرَانِ عَلَى الْقُصُورِ مِنَ الشُّكْرِ وَالتَّجَاوُزِ عَنِ السَّيِّئَاتِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ..
سَمَاحَةٌ فِي الْأَرْضِ بِالنِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ. وَسَمَاحَةٌ فِي السَّمَاءِ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ. فَمَاذَا يُقْعِدُهُمْ عَنِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرَانِ؟
وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ: خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ..
أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّصَرُّفِ الْحَمِيدِ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَسَلَبَهُمْ سَبَبَ هَذَا الرَّخَاءِ الْجَمِيلِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ; وَأَرْسَلَ السَّيْلَ الْجَارِفَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَرِمَ فِي طَرِيقِهِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ لِشِدَّةِ تَدَفُّقِهِ، فَحَطَّمَ السَّدَّ وَانْسَاحَتِ الْمِيَاهُ فَطَغَتْ وَأَغْرَقَتْ; ثُمَّ لَمْ يَعُدِ الْمَاءُ يُخَزَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَفَّتْ وَاحْتَرَقَتْ. وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْجِنَانَ الْفِيحِ صَحْرَاءَ تَتَنَاثَرُ فِيهَا الْأَشْجَارُ الْبَرِّيَّةُ الْخَشِنَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ: خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ..
وَالْخَمْطُ شَجَرُ الْأَرَاكِ أَوْ كُلُّ شَجَرٍ ذِي شَوْكٍ. وَالْأَثْلُ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطُّرَفَاءَ. وَالسِّدْرُ النَّبْقُ. وَهُوَ أَجْوَدُ مَا صَارَ لَهُمْ وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ!
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ..
وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ..
وَكَانُوا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مَا يَزَالُونَ فِي قُرَاهُمْ وَبُيُوتِهِمْ. ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، وَبَدَّلَهُمْ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعْمَاءِ خُشُونَةً وَشِدَّةً; وَلَكِنَّهُ لَمْ يُمَزِّقْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ. وَكَانَ الْعُمْرَانُ مَا يَزَالُ مُتَّصِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الْمُبَارَكَةِ:
مَكَّةَ فِي
الْجَزِيرَةِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي
الشَّامِ. فَقَدْ كَانَتِ
الْيَمَنُ مَا تَزَالُ عَامِرَةً فِي شَمَالِ بِلَادِ
سَبَأٍ وَمُتَّصِلَةً بِالْقُرَى الْمُبَارَكَةِ. وَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا عَامِرٌ مَطْرُوقٌ مَسْلُوكٌ مَأْمُونٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً، وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ. سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ..
وَقِيلَ كَانَ الْمُسَافِرُ يَخْرُجُ مِنْ قَرْيَةٍ فَيَدْخُلُ الْأُخْرَى قَبْلَ دُخُولِ الظَّلَامِ. فَكَانَ السَّفَرُ فِيهَا مَحْدُودَ الْمَسَافَاتِ، مَأْمُونًا عَلَى الْمُسَافِرِينَ. كَمَا كَانَتِ الرَّاحَةُ مَوْفُورَةً لِتَقَارُبِ الْمَنَازِلِ وَتَقَارُبِ الْمَحَطَّاتِ فِي الطَّرِيقِ.
وَغَلَبَتِ الشِّقْوَةُ عَلَى
سَبَأٍ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّذِيرُ الْأَوَّلُ; وَلَمْ يُوَجِّهْهُمْ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ، لَعَلَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا ذَهَبَ مِنَ الرَّخَاءِ. بَلْ دَعَوْا دَعْوَةَ الْحُمْقِ وَالْجَهْلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ..
تَطَلَّبُوا الْأَسْفَارَ الْبَعِيدَةَ الْمَدَى; الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا مَرَّاتٍ مُتَبَاعِدَةً عَلَى مَدَارِ الْعَامِ. لَا تِلْكَ السَّفَرَاتُ الْقَصِيرَةُ الْمُتَدَاخِلَةُ الْمَنَازِلِ، الَّتِي لَا تُشْبِعُ لَذَّةَ الرِّحْلَاتِ! وَكَانَ هَذَا مِنْ بَطَرِ الْقَلْبِ وَظُلْمِ النَّفْسِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ..
وَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُمْ، وَلَكِنْ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَةُ الْبَطَرِ:
[ ص: 2902 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ..
شُرِّدُوا وَمُزِّقُوا; وَتَفَرَّقُوا فِي أَنْحَاءِ الْجَزِيرَةِ مُبَدَّدِي الشَّمْلِ; وَعَادُوا أَحَادِيثَ يَرْوِيهَا الرُّوَاةُ، وَقِصَّةً عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَالْأَفْوَاهِ. بَعْدَ أَنْ كَانُوا أُمَّةً ذَاتَ وُجُودٍ فِي الْحَيَاةِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ..
يُذْكَرُ الصَّبْرُ إِلَى جِوَارِ الشُّكْرِ.. الصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ. وَالشُّكْرُ فِي النَّعْمَاءِ. وَفِي قِصَّةِ سَبَأٍ آيَاتٌ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
هَذَا فَهْمٌ فِي الْآيَةِ. وَهُنَاكَ فَهْمٌ آخَرُ. فَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً .. أَيْ قُرًى غَالِبَةً ذَاتَ سُلْطَانٍ. بَيْنَمَا تَحَوَّلَ سَبَأٌ إِلَى قَوْمٍ فُقَرَاءَ، حَيَاتُهُمْ صَحْرَاوِيَّةٌ جَافَّةٌ. وَكَثُرَتْ أَسْفَارُهُمْ وَانْتِقَالَاتِهِمْ وَرَاءَ الْمَرَاعِي وَمَوَاضِعِ الْمَاءِ. فَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الِابْتِلَاءِ. وَقَالُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا .. أَيْ قَلِّلْ مِنْ أَسْفَارِنَا فَقَدْ تَعِبْنَا. وَلَمْ يَصْحَبُوا هَذَا الدُّعَاءَ بِاسْتِجَابَةٍ وَإِنَابَةٍ لِلَّهِ تَسْتَحِقُّ اسْتِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِمْ. وَكَانُوا قَدْ بَطَرُوا النِّعْمَةَ، وَلَمْ يَصْبِرُوا لِلْمِحْنَةِ. فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مَا فَعَلَ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ; فَأَصْبَحُوا أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَحَدِيثًا يُرْوَى وَقِصَّةً تُحْكَى.. وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ .. مُنَاسِبًا لِقِلَّةِ شُكْرِهِمْ عَلَى النِّعْمَةِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عَلَى الْمِحْنَةِ.. وَهُوَ وَجْهٌ رَأَيْتُهُ فِي الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَفِي خِتَامِ الْقِصَّةِ يَخْرُجُ النَّصُّ مِنْ إِطَارِ الْقِصَّةِ الْمَحْدُودِ، إِلَى إِطَارِ التَّدْبِيرِ الْإِلَهِيِّ الْعَامِّ، وَالتَّقْدِيرِ الْمُحْكَمِ الشَّامِلِ، وَالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَامَّةِ; وَيَكْشِفُ عَنِ الْحِكْمَةِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْقِصَّةِ كُلِّهَا، وَمَا يَكْمُنُ فِيهَا وَخَلْفَهَا مِنْ تَقْدِيرٍ وَتَدْبِيرٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ. إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مِنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ. وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ..
لَقَدْ سَلَكَ الْقَوْمُ هَذَا الْمَسْلَكَ، الَّذِي انْتَهَى إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى غَوَايَتِهِمْ، فَأَغْوَاهُمْ،
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. كَمَا يَقَعُ عَادَةً فِي الْجَمَاعَاتِ فَلَا تَخْلُو مِنْ قِلَّةٍ مُؤْمِنَةٍ تَسْتَعْصِي عَلَى الْغَوَايَةِ; وَتُثْبِتُ أَنَّ هُنَالِكَ حَقًّا ثَابِتًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَطْلُبُهُ; وَيُمَكَّنُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجِدَهُ وَأَنْ يَسْتَمْسِكَ بِهِ، حَتَّى فِي أَحْلَكِ الظُّرُوفِ. وَمَا كَانَ لِإِبْلِيسَ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ عَلَيْهِمْ لَا يَمْلِكُونَ رَفْعَهُ. فَلَيْسَ هُنَالِكَ قَهْرٌ لَهُمْ مِنْهُ وَلَا سَيْطَرَةَ عَلَيْهِمْ لَهُ. إِنَّمَا هُوَ تَسْلِيطُهُ عَلَيْهِمْ لِيَثْبُتَ عَلَى الْحَقِّ مَنْ يَثْبُتُ، وَلِيَزِيغَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَبْتَغِي الْحَقَّ وَيَتَحَرَّاهُ. وَلِيَظْهَرَ فِي عَالَمِ الْوَاقِعِ
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ فَيَعْصِمُهُ إِيمَانُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ،
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ .. فَهُوَ يَتَأَرْجَحُ أَوْ يَسْتَجِيبُ لِلْغَوَايَةِ. بِلَا عَاصِمٍ مِنْ رِقَابَةٍ لِلَّهِ وَلَا تَطَلُّعٍ لِلْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يَقَعُ قَبْلَ ظُهُورِهِ لِلنَّاسِ. وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَتِّبُ الْجَزَاءَ عَلَى ظُهُورِهِ وَوُقُوعِهِ فِعْلًا فِي دُنْيَا النَّاسِ.
وَفِي هَذَا الْمَجَالِ الْوَاسِعِ الْمَفْتُوحِ. مَجَالِ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ لِلْأُمُورِ وَالْأَحْدَاثِ. وَمَجَالِ غَوَايَةِ إِبْلِيسَ لِلنَّاسِ، بِلَا سُلْطَانٍ قَاهِرٍ عَلَيْهِمْ، إِلَّا تَسْلِيطِهِ لِيَظْهَرَ الْمَكْنُونُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مَنَ الْمَصَائِرِ وَالنَّتَائِجِ.. فِي هَذَا الْمَجَالِ الْوَاسِعِ تَتَّصِلُ قِصَّةُ سَبَأٍ بِقِصَّةِ كُلِّ قَوْمٍ، فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. وَيَتَّسِعُ مَجَالُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَمَجَالُ هَذَا التَّعْقِيبِ، فَلَا يَعُودُ قَاصِرًا عَلَى قِصَّةِ سَبَأٍ، إِنَّمَا يَصْلُحُ تَقْرِيرًا لِحَالِ الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ. فَهِيَ قِصَّةُ الْغَوَايَةِ وَالْهِدَايَةِ وَمُلَابَسَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَنَتَائِجِهِمَا فِي كُلِّ حَالٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ..
[ ص: 2903 ] فَلَا يَنِدُّ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ، وَلَا يُهْمَلُ شَيْءٌ وَلَا يَضِيعُ..
وَهَكَذَا تَنْتَهِي الْجَوْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي السُّورَةِ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْآخِرَةِ كَمَا انْتَهَتِ الْجَوْلَةُ الْأُولَى. وَبِالتَّرْكِيزِ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ. وَهُمَا الْمَوْضُوعَانِ اللَّذَانِ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمَا التَّرْكِيزُ فِي السُّورَةِ وَالتَّوْكِيدُ.