ولما تقدم الأمر بالذكر عند نزغ الشيطان، ومر إلى أن أمر بالاستماع لأعظم الذكر، وكان التالي ربما بالغ في الجهر ليكثر سامعه، وربما أسر لئلا يوجب على غيره الإصغاء، علمهم أدب القراءة،
[ ص: 210 ] وأطلق ذلك في كل حال؛ لأنه ربما فهم فاهم الاقتصار على ذكر في حالة النزغ، ورقي الخطاب منهم إلى إمامهم ليكون أدعى لقبولهم مع الإشارة إلى أنه لا يكاد يقوم بهذا الأمر حق قيامه غيره صلى الله عليه وسلم فقال:
nindex.php?page=treesubj&link=19773_19995_24406_24432_34380_34513_28978nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر أي: بكل ذكر من القرآن وغيره -
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205ربك أي: الذي بلغ الغاية في الإحسان إليك
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205في نفسك أي: ذكرا يكون راسخا فيك مظروفا لك لفهمك لمعانيه وتخلقك بما فيه، وليكن سرا لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وأعون على التفكر، وكونه سرا دال على أشرف الأحوال، وهو المراقبة مع تحقق القرب، فإذا كان كذلك أثمر قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تضرعا أي: حال كونك ذا تضرع بالظاهر
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وخيفة أي: لتدعو المخافة إلى تذلل قبلك لتجمع بين تضرع السر والعلن، وبهذا يكمل
nindex.php?page=treesubj&link=28657ذل العبودية لعز الربوبية.
ولما أمر بالسر، قال مقابلا له:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205ودون الجهر أي: لأنه أدخل في الإخلاص، ومن المعلوم أنه فوق السر، وإلا لم تفد الجملة شيئا، ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، أكده بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205من القول أي: فإن ذلك يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح كما يناجى الملوك ويستجلب منهم الرغائب، وكما
nindex.php?page=hadith&LINKID=653883قال صلى الله عليه وسلم للصحابة وقد جهروا بالدعاء فوق المقدار: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا" فإن
[ ص: 211 ] المقصود حصول الذكر اللساني ليعين الذكر القلبي، والمقصود حاصل بإسماع النفس؛ فإنه يتأثر الخيال فيتقوى الذكر القلبي، ولا تزال الأنوار تتزايد فينعكس تراجع بعضها إلى بعض حتى يزداد الترقي من ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
ولما أمر بالذكر مكيفا بكيفيته اللائقة به، أمره صلى الله عليه وسلم بالمداومة عليه ذاكرا أحسن الأوقات له وأحقها به، لكونها لما فيها من الشغل - أدل على إيثاره لمزيد المحبة والتعظيم فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205بالغدو أي: أوقات البكر، ولعله أفرده على جعله مصدر غدا؛ لأنه ما ثم إلا صلاة الصبح، وجمع ما بعده للعصرين والمغرب فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205والآصال أي: أوقات العشاء، وقيل: الغدو جمع غدوة، فيراد حينئذ مع الصبح الضحى، وآخر كل نهار متصل بأول ليلة اليوم الثاني فسمي آخر اليوم أصيلا لأنه يتصل بما هو أصل اليوم الثاني، وخص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليل باسم جزئه، ليذكر بالغدو الانتشار من الموت، وبالأصيل السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل فيكون ذلك حاويا على تعظيمه حق تعظيمه.
ولما كان ربما أوهم هذا الخصوص بهذين الوقتين وإن ظاهرا في
[ ص: 212 ] الدوام، قال مصرحا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205ولا تكن من الغافلين أي: في وقت غيرهما، بل كن ذاكره في كل وقت على كل حال;
وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَمَرَّ إِلَى أَنْ أَمَرَ بِالِاسْتِمَاعِ لِأَعْظَمِ الذِّكْرِ، وَكَانَ التَّالِي رُبَّمَا بَالَغَ فِي الْجَهْرِ لِيَكْثُرَ سَامِعُهُ، وَرُبَّمَا أَسَرَّ لِئَلَّا يُوجِبَ عَلَى غَيْرِهِ الْإِصْغَاءَ، عَلَّمَهُمْ أَدَبَ الْقِرَاءَةِ،
[ ص: 210 ] وَأَطْلَقَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا فَهِمَ فَاهِمٌ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرٍ فِي حَالَةِ النَّزْغِ، وَرَقِيَ الْخِطَابُ مِنْهُمْ إِلَى إِمَامِهِمْ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمْ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ حَقَّ قِيَامِهِ غَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
nindex.php?page=treesubj&link=19773_19995_24406_24432_34380_34513_28978nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ أَيْ: بِكُلِّ ذِكْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205رَبَّكَ أَيِ: الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205فِي نَفْسِكَ أَيْ: ذِكْرًا يَكُونُ رَاسِخًا فِيكَ مَظْرُوفًا لَكَ لِفَهْمِكَ لِمَعَانِيهِ وَتَخَلُّقِكَ بِمَا فِيهِ، وَلْيَكُنْ سِرًّا لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَأَعْوَنُ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَكَوْنُهُ سِرًّا دَالٌّ عَلَى أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الْمُرَاقَبَةُ مَعَ تَحَقُّقِ الْقُرْبِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَثْمَرَ قَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تَضَرُّعًا أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ ذَا تَضَرُّعٍ بِالظَّاهِرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَخِيفَةً أَيْ: لِتَدْعُوَ الْمَخَافَةُ إِلَى تَذَلُّلِ قَبْلِكَ لِتَجْمَعَ بَيْنَ تَضَرُّعِ السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَبِهَذَا يَكْمُلُ
nindex.php?page=treesubj&link=28657ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالسِّرِّ، قَالَ مُقَابِلًا لَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَدُونَ الْجَهْرِ أَيْ: لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ فَوْقَ السِّرِّ، وَإِلَّا لَمْ تُفِدِ الْجُمْلَةُ شَيْئًا، وَلَمَّا كَانَ الْجَهْرُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ مِنْ غَيْرِ صِيَاحٍ كَمَا يُنَاجَى الْمُلُوكُ وَيُسْتَجْلَبُ مِنْهُمُ الرَّغَائِبُ، وَكَمَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=653883قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ وَقَدْ جَهَرُوا بِالدُّعَاءِ فَوْقَ الْمِقْدَارِ: "إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا" فَإِنَّ
[ ص: 211 ] الْمَقْصُودَ حُصُولُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ لِيُعِينَ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِإِسْمَاعِ النَّفْسِ؛ فَإِنَّهُ يَتَأَثَّرُ الْخَيَالُ فَيَتَقَوَّى الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ، وَلَا تَزَالُ الْأَنْوَارُ تَتَزَايَدُ فَيَنْعَكِسُ تَرَاجُعُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَزْدَادَ التَّرَقِّي مِنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى أَنْوَارِ مُدْبِرِ النُّورِ وَالظَّلَامِ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالذِّكْرِ مُكَيَّفًا بِكَيْفِيَّتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ، أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ ذَاكِرًا أَحْسَنَ الْأَوْقَاتِ لَهُ وَأَحَقَّهَا بِهِ، لِكَوْنِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّغْلِ - أَدَلَّ عَلَى إِيثَارِهِ لِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205بِالْغُدُوِّ أَيْ: أَوْقَاتِ الْبِكْرِ، وَلَعَلَّهُ أَفْرَدَهُ عَلَى جَعْلِهِ مَصْدَرَ غَدَا؛ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ إِلَّا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَجَمَعَ مَا بَعْدَهُ لِلْعَصْرَيْنِ وَالْمَغْرِبِ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَالآصَالِ أَيْ: أَوْقَاتِ الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: الْغُدُوُّ جَمْعُ غُدْوَةٍ، فَيُرَادُ حِينَئِذٍ مَعَ الصُّبْحِ الضُّحَى، وَآخِرُ كُلِّ نَهَارٍ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ لَيْلَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي فَسُمِّيَ آخِرُ الْيَوْمِ أَصِيلًا لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِمَا هُوَ أَصْلُ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الدَّوَامَ بِتَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ بِاسْمِ جُزْئِهِ، لِيَذْكُرَ بِالْغُدُوِّ الِانْتِشَارَ مِنَ الْمَوْتِ، وَبِالْأَصِيلِ السُّكُونَ بِالْمَوْتِ وَالرُّجُوعَ إِلَى حَالِ الْعَدَمِ فَيَسْتَحْضِرُ بِذَلِكَ جَلَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَاوِيًا عَلَى تَعْظِيمِهِ حَقَّ تَعْظِيمِهِ.
وَلَمَّا كَانَ رُبَّمَا أَوْهَمَ هَذَا الْخُصُوصُ بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ ظَاهِرًا فِي
[ ص: 212 ] الدَّوَامِ، قَالَ مُصَرِّحًا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ أَيْ: فِي وَقْتٍ غَيْرِهِمَا، بَلْ كُنْ ذَاكِرَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ;