فصل ومن أعظم الأصول
nindex.php?page=treesubj&link=29067_29445معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه منه الصفات الفعلية كقوله في هذه السورة {
nindex.php?page=tafseer&surano=6203&ayano=2الذي خلق } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6204&ayano=96خلق الإنسان من علق } و " الخلق " مذكور في مواضع كثيرة وكذلك غيره من الأفعال . وهو نوعان .
فعل متعد إلى مفعول به مثل " خلق " فإنه يقتضي مخلوقا وكذلك " رزق " كقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=3479&ayano=30الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } . وكذلك الهدى والإضلال والتعليم والبعث والإرسال والتكليم .
وكذلك ما أخبر به من قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4271&ayano=41فقضاهن سبع سماوات في يومين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=2فسواهن سبع سماوات } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4773&ayano=51والسماء بنيناها بأيد } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=2الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } وقوله في الآية الأخرى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4237&ayano=40الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات } وهذا في القرآن [ كثير ] جدا .
والأفعال اللازمة كقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=2ثم استوى إلى السماء } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7ثم استوى على العرش } {
nindex.php?page=tafseer&surano=219&ayano=2هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } {
nindex.php?page=tafseer&surano=953&ayano=6هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6104&ayano=89وجاء ربك والملك صفا صفا } .
فأما النوع الأول فالمسلمون متفقون على إضافته إلى الله وأنه هو الذي يخلق ويرزق ليس ذلك صفة لشيء من مخلوقاته .
لكن هل قام به فعل هو الخلق أو الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق ؟ وهذا فيه قولان لمن يثبت اتصافه بالصفات . فأما
[ ص: 374 ] nindex.php?page=treesubj&link=28719_28712من ينفي الصفات من الجهمية والمعتزلة فهم ينفون قيام الفعل به بطريق الأولى .
لكن منهم من يجعل الخلق غير المخلوق ويجعل الخلق إما معنى قام بالمخلوق أو المعاني المتسلسلة كما يقوله
معمر بن عباد ; أو يجعل الخلق قائما لا في محل كقول بعضهم : إنه قول " كن " لا في محل وقول
البصريين : إنه إرادة لا في محل . وهذا فرار منهم عن قيام الحوادث به مع أن منهم من يلتزم ذلك كما التزمه
أبو الحسين وغيره .
والجمهور المثبتون للصفات هم في الأفعال على قولين .
منهم من يقول : لا يقوم به فعل وإنما الفعل هو المفعول وهذا قول طائفة منهم
الأشعري ومن وافقه من أصحابه وغير أصحابه
Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وغيره وهو أول قولي
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى .
وهؤلاء يقسمون الصفات إلى ذاتية ومعنوية وفعلية . وهذا تقسيم لا حقيقة له . فإن الأفعال عندهم لا تقوم به فلا يتصف بها . لكن يخبر عنه بها .
وهذا التقسيم يناسب قول من قال : الصفات هي الأخبار التي
[ ص: 375 ] يخبر بها عنه لا معاني تقوم به كما تقول ذلك
الجهمية والمعتزلة . فهؤلاء إذا قالوا :
nindex.php?page=treesubj&link=28721_28722الصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية أرادوا بذلك ما يخبر به عنه من الكلام تارة يكون خبرا عن ذاته وتارة عن المخلوقات ليس عندهم صفات تقوم به . فمن فسر الصفات بهذا أمكنه أن يجعلها ثلاثة أقسام ذاتية ومعنوية وفعلية .
وأما من كان مراده بالصفات ما يقوم به فهذا التقسيم لا يصلح على أصلهم ولكن أخذوا التقسيم عن أولئك وهم مخالفون لهم في المراد بالصفات .
وهذا التقسيم موجود في كلام
أبي الحسن ومن وافقه
nindex.php?page=showalam&ids=14953كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والباجي وغيرهم .
والقول الثاني : أنه تقوم به الأفعال . وهذا قول
السلف وجمهور مثبتة الصفات .
ذكر
البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " أن هذا إجماع العلماء خالق وخلق ومخلوق . وذكره
البغوي قول أهل السنة وذكره
أبو نصر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب " التعرف بمذاهب التصوف " أنه قول
الصوفية . وهو قول
الحنفية مشهور عندهم يسمونه
[ ص: 376 ] " التكوين " وهو قول
الكرامية والهشامية ونحوهما وهو قول القدماء من
أصحاب مالك والشافعي وأحمد . وهو آخر قولي
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى .
ثم إذا قيل : الخلق غير المخلوق وإنه قائم بالرب فهل هو خلق قديم لازم لذات الرب مع حدوث المخلوقات كما يقوله
أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ؟ أو هو خلق حادث بذاته حدث لما حدث جنس المخلوقات ؟ أم خلق بعد خلق ؟ على ثلاثة أقوال .
وهذا أو هذا هو الذي عليه أئمة السنة والحديث وجمهورهم . وهو قول طوائف من
أهل الكلام من
الكرامية والهشامية وغيرهم .
فمن قال " إنه يتكلم بمشيئته واختياره كلاما يقوم بذاته يمكنه أن يقول : إنه يفعل باختياره ومشيئته فعلا يقوم بذاته " .
والذين يقولون بقيام الأمور الاختيارية بذاته منهم من يصحح دليل الأعراض والاستدلال به على حدوث الأجسام
كالكرامية ومتأخري
الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية . ومنهم من لا يصححه
كأئمة السلف وأئمة السنة والحديث .
nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم
[ ص: 377 ] وهذه المسألة يعبر عنها بـ " مسألة التأثير " هل هو أمر وجودي أم لا ؟ وهل التأثير زائد على المؤثر والأثر أم [ لا ] ؟ وكلام
الرازي في ذلك مختلف كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع .
وعمدة الذين قالوا : إن الخلق هو المخلوق والتأثير هو وجود الأثر لم يثبتوا زائدا أن قالوا : لو كان الخلق والتأثير زائدا على ذات المخلوق والأثر لكان إما أن يقوم بمحل أو لا والثاني باطل فإن المعاني لا تقوم بأنفسها . وهذا رد على طائفة من
المعتزلة قالوا : يقوم بنفسه .
قالوا : وإذا قام بمحل فإما أن يقوم بالخالق أو بغيره والثاني باطل لأنه لو قام بغيره لكان ذلك الغير هو الخالق لا هو . وهذا رد على طائفة ثانية يقولون : إنه يقوم بالمخلوق .
وإذا قام بالخالق فإما أن يكون قديما أو محدثا ولو كان قديما للزم قدم المخلوق فإن الخلق والمخلوق متلازمان . فوجود خلق بلا مخلوق ممتنع وكذلك وجود تأثير بلا أثر .
وإن كان محدثا فهو باطل لوجهين . أحدهما أنه يلزم قيام الحوادث به . والثاني أن ذلك الخلق الحادث يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل ومعمر بن عباد التزم التسلسل وجعل للخلق خلقا وللخلق خلقا
[ ص: 378 ] لكن لا في ذات الله وجعل ذلك في وقت واحد .
فهذه عمدة هؤلاء . وكل طائفة تخالفهم منعت مقدمة من مقدمات دليلهم .
فمن جوز أن يقوم بنفسه أو بالمخلوق منع تينك المقدمتين . وأما الجمهور فكل أجاب بحسب قوله .
منهم من قال : بل الخلق والتكوين قديم كما أن الإرادة عندكم قديمة . ومع القول بقدمها لم يلزم تقدم المراد كذلك الخلق والتكوين قديم ولا يلزم تقدم المخلوق . وهذا لازم
للكلابية من الأشعرية وغيرهم لا جواب لهم عنه .
لكن لا يلزم من نفي قدم إرادة معينة بل نفي قدم الإرادة كما يقوله
الجهمية والمعتزلة . أو يقول بقدم نوع الإرادة كما يقوله أئمة
أهل الحديث ومن وافقهم من
الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم .
لكن صاحب هذا القول يقال له : التكوين القديم إما أن يكون بمشيئته وإما أن لا يكون بمشيئته . فإن كان بغير مشيئته لزم أن يكون قد خلق الخلق بلا مشيئته . وإن كان بمشيئته لزم أن يكون القديم مرادا وهذا باطل . ولو صح لأمكن كون العالم قديما مع كونه مخلوقا
[ ص: 379 ] بخلق قديم بإرادة قديمة . ومعلوم أن هذا باطل . ولهذا كان كل من قال " القرآن قديم " يقولون : تكلم بغير مشيئته وقدرته .
فالمفعول المراد لا يكون إلا حادثا وكذلك الفعل المراد لا يكون إلا حادثا .
وأيضا فهؤلاء المنازعون لهم يقولون : الإرادة مستلزمة للمراد والخلق مستلزم للمخلوق . وما ذكر حجة على هؤلاء وهؤلاء . فإن الإرادة والخلق من الأمور الإضافية وثبوت إرادة بلا مراد وخلق بلا مخلوق ممتنع . لكن المنازع يقول : توجد الإرادة والخلق ويتأخر المراد المخلوق فيقال لهؤلاء تقولون : توجد الإرادة أو الخلق مع الإرادة ولا يوجد لا المراد ولا المخلوق . ثم بعد ذلك بما لا يتناهى من تقدير الأوقات يوجد المراد المخلوق من غير سبب . وهذا معلوم البطلان في بداية العقول . فإن الإرادة أو الخلق كان موجودا مع القدرة . فإن كان هذا مؤثرا تاما استلزم وجود الأثر ولزم وجود الأثر عند وجود المؤثر التام .
فإن الأثر " ممكن " والممكن يجب وجوده عند وجود المرجح
[ ص: 380 ] التام إذ لو لم يكن كذلك كان جائزا بعد وجود المرجح يقبل الوجود والعدم وحينئذ فيفتقر إلى مرجح . وهذا يستلزم التسلسل . ولا ينقطع التسلسل إلا إذا وجد المرجح التام الموجب .
وهنا تنازع الناس فقالت طائفة مثل
محمد بن الهيصم الكرامي ومحمود الخوارزمي يكون الممكن أولى بالوقوع لكن لا ينتهي إلى حد الوجوب .
وقال أكثر
المعتزلة والأشعرية : بل لا يصير أولى ولكن القادر أو القادر المريد يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح .
وآخرون عرفوا أن هذا لازم فاعترفوا بأنه عند وجود المرجح التام يجب وجود الأثر وعند الداعي التام مع القدرة يجب وجود الفعل كما اعترف بذلك
أبو الحسين البصري والرازي والطوسي وغيرهم . وكثير من قدماء
المتكلمين يقولون بالإرادة الموجبة وأن الإرادة تستلزم وجود المراد .
والمتفلسفة أوردوا هذا على المتكلمين لكن بأن الأثر يقارن وجود التأثير فيكون معه بالزمن .
وكثير من الناس لا يعرف إلا هذا القول وذاك القول
[ ص: 381 ] كالرازي وغيره فيبقون حيارى في هذا الأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين والكلام .
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير موضع وبينا أن قولا ثالثا هو الصواب الذي عليه أئمة العلم . وهو أن التأثير التام يستلزم وجود الأثر عقبه لا معه في الزمان ولا متراخيا عنه .
فمن قال بالتراخي من
أهل الكلام فقد غلط ومن قال بالاقتران
كالمتفلسفة فهم أعظم غلطا . ويلزم قولهم من المحالات ما قد بيناه في مواضع .
وأما هذا القول فعليه يدل السمع والعقل . قال الله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3823&ayano=36إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } . والعقلاء يقولون " قطعته فانقطع وكسرته فانكسر " و " طلق المرأة فطلقت وأعتق العبد فعتق " . فالعتق والطلاق يقعان عقب الإعتاق والتطليق لا يتراخى الأثر ولا يقارن . وكذلك الانكسار والانقطاع مع القطع والكسر .
وهذا مما يبين أنه إذا وجد الخلق لزم وجود المخلوق عقبه كما يقال : كون الله الشيء فتكون . فتكونه عقب تكوين الله لا مع التكوين ولا متراخيا .
[ ص: 382 ] وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=28783_28661الإرادة التامة مع القدرة تستلزم وجود المراد المقدور .
فهو يريد أن يخلق فيوجد الخلق بإرادته وقدرته . ثم الخلق يستلزم وجود المخلوق وإن كان ذلك الخلق حادثا بسبب آخر يكون هذا عقبه . فإنما في ذلك وجود الأثر عقب المؤثر التام والتسلسل في الآثار . وكلاهما حق والله أعلم .
وأما المخلوق فلا يكون إلا بائنا عنه لا يقوم به مخلوق .
بل نفس الإرادة مع القدرة تقتضي وجود الخلق كما تقتضي وجود الكلام .
ولا يفتقر الخلق إلى خلق آخر بل يفتقر إلى ما به يحصل وهو الإرادة المتقدمة . وإذا خلق شيئا أراد خلق شيء آخر وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
nindex.php?page=treesubj&link=29620_29626ومن قال : إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال : نحن نقول بقيام الحوادث .
ولا دليل على بطلان ذلك . بل العقل والنقل والكتاب والسنة وإجماع
السلف يدل على تحقيق ذلك كما قد بسط في موضعه .
[ ص: 383 ] ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك كما اعترف بذلك أقرب
الفلاسفة إلى الحق
كأبي البركات صاحب " المعتبر " وغيره .
وأما قولهم : يلزم أن للخلق خلقا آخر فقد أجابهم من يلتزم ذلك
كالكرامية وغيرهم بأنكم تقولون : إن المخلوقات المنفصلة تحدث بلا حدوث سبب أصلا . وحينئذ فالقول بحدوث الخلق الذي تحصل به المخلوقات بلا حدوث سبب أقرب إلى العقل والنقل .
وهذا جواب لازم على هذا التقدير تقدير قيام الأمور الاختيارية .
والكرامية يسمون ما قام به " حادثا " ولا يسمونه " محدثا " كالكلام الذي يتكلم به القرآن أو غيره يقولون : هو حادث ويمنعون أن يقال : هو محدث لأن " الحادث " يحدث بقدرته ومشيئته ك " الفعل " . وأما " المحدث " فيفتقر إلى إحداث فيلزم أن يقوم بذاته إحداث غير المحدث وذلك الإحداث يفتقر إلى إحداث فيلزم التسلسل .
وأما غير
الكرامية من أئمة الحديث والسنة والكلام فيسمون ذلك " محدثا " كما قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=2506&ayano=21ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }
[ ص: 384 ] وفي الصحيحين عن
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597873إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } . والذي أحدثه هو النهي عن تكلمهم في الصلاة .
وقولهم " إن المحدث يفتقر إلى إحداث وهلم جرا " هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلما بكلام بعد كلام وكلمات الله لا نهاية لها وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء . وهذا قول أئمة السنة وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل .
وكذلك أفعاله فإن الفعل والكلام صفة كمال . فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يخلق أكمل ممن لا يخلق . قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1934&ayano=16أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } .
وحينئذ فهو
nindex.php?page=treesubj&link=28707_29446ما زال متصفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الإكرام والجلال .
وبهذا تزول أنواع الإشكال ويعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=28751ما أخبرت به الرسل عن الله من أصدق الأقوال وأن دلائل العقول لا تدل إلا على ما يوافق أخبار الرسول .
ولكن نشأ الغلط من جهل كثير من الناس بما أخبر به الرسول
[ ص: 385 ] وسلوكهم أدلة برأيهم ظنوها عقلية وهي جهلية . فغلطوا في الدلائل السمعية والعقلية فاختلفوا {
nindex.php?page=tafseer&surano=185&ayano=2وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } .
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع في مسألة الكلام والأفعال وذكر ما تيسر من كلام
السلف والأئمة في هذا الأصل والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الأقوال .
وهذا الموضع مما بينه أئمة السنة
nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد وغيره . فتكلم في " الرد على الجهمية " على قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنا جعلناه قرآنا عربيا } . وبين أن " الجعل " من الله قد يكون " خلقا " كقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=796&ayano=6وجعل الظلمات والنور } وقد يكون " فعلا ليس بخلق " وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنا جعلناه قرآنا عربيا } من هذا الباب .
وذلك أن الخلق ونحوه من الأفعال التي ليست خلقا مثل تكلمه بالقرآن وغيره وتكلمه
لموسى وغيره ومثل النزول والإتيان والمجيء ونحو ذلك فهذه إنما تكون بقدرته ومشيئته وبأفعال أخر تقوم بذاته ليست خلقا .
وبهذا يجيب
البخاري وغيره من أئمة السنة
للكرامية إذا قالوا : " المحدث لا بد له من إحداث ؟ " فيقول : " نعم وذلك الإحداث
[ ص: 386 ] فعل ليس بخلق " و " التسلسل " نلتزمه .
فإن التسلسل الممتنع هو وجود المتسلسلات في آن واحد ; كوجود خالق للخالق وخالق للخالق أو للخلق خلق وللخلق خلق في آن واحد . وهذا ممتنع من وجوه . منها وجود ما لا يتناهى في آن واحد وهذا ممتنع مطلقا . ومنها أن كل ما ذكر يكون " محدثا " لا " ممكنا " وليس فيها موجود بنفسه ينقطع به التسلسل وإذا كان أولى بالامتناع .
بخلاف ما إذا قيل " كان قبل هذا الكلام كلام وقبل هذا الفعل فعل " جائز عند أكثر العقلاء أئمة السنة وأئمة
الفلاسفة وغيرهم .
فإذا قيل " هذا الكلام المحدث أحدثه في نفسه " كان هذا معقولا . وهو مثل قولنا " تكلم به " . وهو معنى قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنا جعلناه قرآنا عربيا } أي تكلمنا به عربيا وأنزلناه عربيا .
وكذلك فسره
السلف كإسحاق بن راهويه وذكره عن
مجاهد قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43جعلناه قرآنا عربيا } قلناه عربيا ذكره
ابن أبي حاتم في تفسيره عن
إسحاق بن راهويه قال : ذكر لنا عن
مجاهد وغيره من
التابعين {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنا جعلناه قرآنا عربيا } إنا قلناه ووصفناه . وذكره
[ ص: 387 ] عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل عن
الأشجعي عن
سفيان الثوري في قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43جعلناه قرآنا عربيا } بيناه قرآنا عربيا .
والإنسان يفرق بين تكلمه وتحركه في نفسه وبين تحريكه لغيره . وقد احتج
سفيان بن عيينة وغيره من
السلف على أنه غير مخلوق بأن الله خلق الأشياء بـ " كن " . فلو كانت " كن " مخلوقة لزم أن يكون خلق مخلوقا بمخلوق فيلزم التسلسل الباطل .
وذلك أنه إذا لم يخلق إلا بـ " كن " فلو كانت " كن " مخلوقة لزم أن لا يخلق شيئا . وهو الدور الممتنع . فإنه لا يخلق شيئا حتى يقول " كن " ولا يقول " كن " حتى يخلقها فلا يخلق شيئا . وهذا تسلسل في أصل التأثير والفعل مثل أن يقال : لا يفعل حتى يفعل فيلزم أن لا يفعل ; ولا يخلق حتى يخلق فيلزم أن لا يخلق .
وأما إذا قيل : قال " كن " وقبل " كن " " كن " وقبل " كن " " كن " فهذا ليس بممتنع . فإن هذا تسلسل في آحاد التأثير لا في جنسه . كما أنه في المستقبل يقول " كن " بعد " كن " ويخلق شيئا بعد شيء إلى غير نهاية .
فالمخلوقات التامة يخلقها بخلقه وخلقه فعله القائم به وذلك إنما يكون بقدرته ومشيئته .
[ ص: 388 ] وإذا قيل : هذا الفعل القائم به يفتقر إلى فعل آخر يكون هو المؤثر في وجوده غير القدرة والإرادة فإنه لو كان مجرد ذلك كافيا كفى في وجود المخلوق فلما كان لا بد له من خلق فهذا الخلق أمر حادث بعد أن لم يكن وهو فعل قائم به . فالمؤثر التام فيه يكون مستلزما له مستعقبا له كالمؤثر التام في وجود الكلام الحادث بذاته .
والمتكلم من الناس إذا تكلم فوجود الكلام لفظه ومعناه مسبوق بفعل آخر . فلا بد من حركة تستعقب وجود الحروف التي هي الكلام . فتلك الحركة هي التي تجعل الكلام عربيا أو عجميا وهو فعل يقوم بالفاعل . وذلك الجعل الحادث حدث بمؤثر تام قبله أيضا .
وذات الرب هي المقتضية لذلك كله . فهي تقتضي الثاني بشرط انقضاء الأول لا معه . واقتضاؤها للثاني فعل يقوم بها بعد الأول . وهي مقتضية لهذا التأثير وهذا التأثير .
ثم هذا التأثير وكل تأثير هو مسبب عما قبله وشرط لما بعده . وليس في ذلك شيء مخلوق وإن كانت " حادثة " .
وإن قال قائل : أنا أسمي هذا " خلقا " كان نزاعه لفظيا وقيل له : الذين قالوا " القرآن مخلوق " لم يكن مرادهم هذا ولا رد
السلف والأئمة هذا . إنما ردوا قول من جعله مخلوقا بائنا عن الله كما قال
[ ص: 389 ] nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : كلام الله من الله ليس بائنا عنه .
وقالوا :
nindex.php?page=treesubj&link=29455_29453_28707القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ .
قال
أحمد : منه بدأ هو المتكلم به لم يبدأ من مخلوق كما قال من قال : إنه مخلوق . قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=909&ayano=6والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } .
ولهذا لا يقول أحد إنه خلق نزوله واستواءه ومجيئه . وكذلك تكليمه
لموسى ونداؤه له ناداه وكلمه بمشيئته وقدرته . والتكليم فعل قام بذاته وليس هو الخلق كما أن الإنسان إذا تكلم فقد فعل كلاما وأحدث كلاما ولكن في نفسه لا مباينا له .
ولهذا كان الكلام صفة فعل وهو صفة ذات أيضا على مذهب
السلف والأئمة .
ومن قال إنه مخلوق يقول : إنه صفة فعل ويجعل الفعل بائنا عنه والكلام بائنا عنه . ومن قال صفة ذات يقول : إنه يتكلم بلا مشيئته وقدرته .
nindex.php?page=treesubj&link=28707_29453ومذهب السلف أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه قائم به . فهو صفة [ ص: 390 ] ذات وصفة فعل . ولكن الفعل هنا ليس هو الخلق بل كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : الجعل جعلان جعل هو خلق وجعل ليس بخلق .
وهذا كله يستلزم قيام الأفعال بذاته وأنها تنقسم إلى قسمين أفعال متعدية كالخلق وأفعال لازمة كالتكلم والنزول .
والسلف يثبتون النوعين هذا وغيره .
وأما جعل القرآن عربيا وإن كان متعديا في صناعة العربية بمعنى أنه نصب مفعولا ففي " الكلام " الفعل الذي هو " التكلم " متصلا بالمفعول الذي هو " الكلام " كلاهما قائم بالمتكلم .
ولهذا قد يراد بالمفعول المصدر . إذا قلت " قال قولا حسنا " فقد يراد بـ " القول " المصدر فقط وقد يراد به " الكلام " فقط فيكون المفعول وقد يراد به المجموع فيكون مفعولا به ومصدرا .
وكذلك " القرآن " هو في الأصل " قرأ قرآنا " وهو الفعل والحركة ثم سمي الكلام المقروء " قرآنا " . قال تعالى في الأول {
nindex.php?page=tafseer&surano=5643&ayano=75إن علينا جمعه وقرآنه } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5644&ayano=75فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } وقال في الثاني {
nindex.php?page=tafseer&surano=2055&ayano=17إن هذا القرآن } .
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن التلاوة والقراءة في
[ ص: 391 ] الأصل مصدر " تلا تلاوة وقرأ قراءة كالقرآن " لكن يسمى به الكلام كما يسمى بالقرآن . وحينئذ فتكون القراءة هي المقروء والتلاوة هي المتلو .
وقد يراد بالتلاوة والقراءة المصدر الذي هو الفعل فلا تكون القراءة والتلاوة هي المقروء المتلو بل تكون مستلزمة له .
وقد يراد بالتلاوة والقراءة مجموع الأمرين فلا تكون هي المتلو لأن فيها الفعل ولا تكون مباينة مغايرة للمتلو لأن المتلو جزؤها .
هذا إذا أريد بالقراءة والمقروء شيء واحد معين مثل قراءة الرب ومقروئه أو قراءة العبد ومقروئه . وأما إذا أريد بالقراءة قراءة العبد وهي حركته وبالمقروء صفة الرب فلا ريب أن حركة العبد ليست صفة الرب .
ولكن هذا تكلف . بل قراءة العبد مقروءه كمقروئه . وقراءته للقرآن إذا عنى بها نفس القرآن فهي مقروءه . وإن عنى بها حركته فليست مقروءه . وإن عنى بها الأمران فلا يطلق أحدهما .
ولهذا كان من المنتسبين إلى السنة من يقول : القراءة هي المقروء ومنهم من يقول : القراءة غير المقروء ومنهم من لا يطلق واحدا
[ ص: 392 ] منهما ولكل قول وجه من الصواب عند التصور التام والإنصاف . وليس فيها قول يحيط بالصواب بل كل قول فيه صواب من وجه وقد يكون خطأ من وجه آخر .
والبخاري إنما يثبت خلق أفعال العباد حركاتهم وأصواتهم . وهذه القراءة هي فعل العبد يؤمر به وينهى عنه . وأما الكلام نفسه فهو كلام الله . ولم يقل
البخاري إن لفظ العبد مخلوق ولا غير مخلوق كما نهى
أحمد عن هذا وهذا .
والذي قال
البخاري إنه مخلوق من أفعال العباد وصفاتهم لم يقل
أحمد ولا غيره من
السلف إنه غير مخلوق وإن سكتوا عنه لظهور أمره ولكونهم كانوا يقصدون الرد على
الجهمية .
والذي قال
أحمد إنه غير مخلوق هو كلام الله لا صفة العباد لم يقل
البخاري إنه مخلوق .
ولكن
أحمد كان مقصوده الرد على من يجعل كلام الله مخلوقا إذا بلغ عن الله
والبخاري كان مقصوده الرد على من يقول : أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة .
وكلا القصدين صحيح لا منافاة بينهما . وقد بين ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة في
[ ص: 393 ] مسألة اللفظ ولكن المنحرفون إلى أحد الطرفين ينكرون على الآخر والله سبحانه أعلم .
فَصْلٌ وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ
nindex.php?page=treesubj&link=29067_29445مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6203&ayano=2الَّذِي خَلَقَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6204&ayano=96خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } و " الْخَلْقُ " مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَهُوَ نَوْعَانِ .
فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ بِهِ مِثْلُ " خَلَقَ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " رَزَقَ " كَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=3479&ayano=30اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْبَعْثُ وَالْإِرْسَالُ وَالتَّكْلِيمُ .
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4271&ayano=41فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=2فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4773&ayano=51وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=2الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4237&ayano=40الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ [ كَثِيرٌ ] جِدًّا .
وَالْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=2ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=219&ayano=2هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=953&ayano=6هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6104&ayano=89وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } .
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ لَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ .
لَكِنْ هَلْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ أَوْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَثْبُتُ اتِّصَافُهُ بِالصِّفَاتِ . فَأَمَّا
[ ص: 374 ] nindex.php?page=treesubj&link=28719_28712مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يَنْفُونَ قِيَامَ الْفِعْلِ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَيَجْعَلُ الْخَلْقَ إمَّا مَعْنًى قَامَ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ كَمَا يَقُولُهُ
مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ ; أَوْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ قَائِمًا لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ قَوْلُ " كُنْ " لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلِ
الْبَصْرِيِّينَ : إنَّهُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا فِرَارٌ مِنْهُمْ عَنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كَمَا الْتَزَمَهُ
أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ .
وَالْجُمْهُورُ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ هُمْ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِ أَصْحَابِهِ
Multitarajem.php?tid=13371,13372كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ
nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .
وَهَؤُلَاءِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ . وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . فَإِنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهَا . لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِهَا .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الصِّفَاتُ هِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي
[ ص: 375 ] يُخْبِرُ بِهَا عَنْهُ لَا مَعَانِيَ تَقُومُ بِهِ كَمَا تَقُولُ ذَلِكَ
الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا :
nindex.php?page=treesubj&link=28721_28722الصِّفَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَلَامِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا عَنْ ذَاتِهِ وَتَارَةً عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ . فَمَنْ فَسَّرَ الصِّفَاتِ بِهَذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً وَفِعْلِيَّةً .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصِّفَاتِ مَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَصْلُحُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَلَكِنْ أَخَذُوا التَّقْسِيمَ عَنْ أُولَئِكَ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالصِّفَاتِ .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ
أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14953كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي والباجي وَغَيْرِهِمْ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ . وَهَذَا قَوْلُ
السَّلَفِ وَجُمْهُورِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ .
ذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ خَالِقٌ وَخَلْقٌ وَمَخْلُوقٌ . وَذَكَرَهُ
البغوي قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ
أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ بِمَذَاهِبِ التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ قَوْلُ
الصُّوفِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ
الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهُ
[ ص: 376 ] " التَّكْوِينُ " وَهُوَ قَوْلُ
الكرامية والهشامية وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدَمَاءِ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ
nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .
ثُمَّ إذَا قِيلَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهَلْ هُوَ خَلْقٌ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ
أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ ؟ أَوْ هُوَ خَلْقٌ حَادِثٌ بِذَاتِهِ حَدَثَ لَمَّا حَدَثَ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ أَمْ خَلْقٌ بَعْدَ خَلْقٍ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
وَهَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجُمْهُورُهُمْ . وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ
الكرامية والهشامية وَغَيْرِهِمْ .
فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ " .
وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ دَلِيلَ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ
كالكرامية وَمُتَأَخِّرِي
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ
كَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ .
nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ
[ ص: 377 ] وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بـ " مَسْأَلَةِ التَّأْثِيرِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّأْثِيرُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ أَمْ [ لَا ] ؟ وَكَلَامُ
الرازي فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ .
وَعُمْدَةُ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالتَّأْثِيرَ هُوَ وُجُودُ الْأَثَرِ لَمْ يُثْبِتُوا زَائِدًا أَنْ قَالُوا : لَوْ كَانَ الْخَلْقُ وَالتَّأْثِيرُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْأَثَرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَحَلِّ أَوْ لَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : يَقُومُ بِنَفْسِهِ .
قَالُوا : وَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْخَالِقِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَالِقَ لَا هُوَ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ .
وَإِذَا قَامَ بِالْخَالِقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَلَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْمَخْلُوقَ مُتَلَازِمَانِ . فَوُجُودُ خَلْقٍ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَلِكَ وُجُودُ تَأْثِيرٍ بِلَا أَثَرٍ .
وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْحَادِثَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ الْتَزَمَ التَّسَلْسُلَ وَجَعَلَ لِلْخَلْقِ خَلْقًا وَلِلْخَلْقِ خَلْقًا
[ ص: 378 ] لَكِنْ لَا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ .
فَهَذِهِ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ . وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُخَالِفُهُمْ مَنَعَتْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِمْ .
فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ مَنَعَ تينك الْمُقْدِمَتَيْنِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُلٌّ أَجَابَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ .
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَكُمْ قَدِيمَةً . وَمَعَ الْقَوْلِ بِقِدَمِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَقَدُّمَ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا لَازِمٌ
للكلابية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ .
لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ قِدَمِ إرَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ نَفْيُ قِدَمِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ
الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ . أَوْ يَقُولُ بِقِدَمِ نَوْعِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ
أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ
الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين وَغَيْرِهِمْ .
لَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ لَهُ : التَّكْوِينُ الْقَدِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ . فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِلَا مَشِيئَتِهِ . وَإِنْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مُرَادًا وَهَذَا بَاطِلٌ . وَلَوْ صَحَّ لَأَمْكَنَ كَوْنُ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا
[ ص: 379 ] بِخَلْقِ قَدِيمٍ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ قَدِيمٌ " يَقُولُونَ : تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
فَالْمَفْعُولُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا .
وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمُرَادِ وَالْخَلْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَخْلُوقِ . وَمَا ذُكِرَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْخَلْقَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَثُبُوتُ إرَادَةٍ بِلَا مُرَادٍ وَخَلْقٌ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ وَالْخَلْقُ وَيَتَأَخَّرُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تَقُولُونَ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ أَوْ الْخَلْقُ مَعَ الْإِرَادَةِ وَلَا يُوجَدُ لَا الْمُرَادُ وَلَا الْمَخْلُوقُ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ يُوجَدُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الْخَلْقَ كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُؤَثِّرًا تَامًّا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْأَثَرِ وَلَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ .
فَإِنَّ الْأَثَرَ " مُمْكِنٌ " وَالْمُمْكِنُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ
[ ص: 380 ] التَّامِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُرَجِّحٍ . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ . وَلَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ إلَّا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ الْمُوجِبُ .
وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيّ يَكُونُ الْمُمْكِنُ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ .
وَقَالَ أَكْثَرُ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ : بَلْ لَا يَصِيرُ أَوْلَى وَلَكِنَّ الْقَادِرَ أَوْ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ .
وَآخَرُونَ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ الْأَثَرِ وَعِنْدَ الدَّاعِي التَّامِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ والرازي والطوسي وَغَيْرُهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ بِالْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ .
والمتفلسفة أَوْرَدُوا هَذَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِأَنَّ الْأَثَرَ يُقَارِنُ وُجُودَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ مَعَهُ بِالزَّمَنِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَذَاكَ الْقَوْلُ
[ ص: 381 ] كالرازي وَغَيْرِهِ فَيَبْقَوْنَ حَيَارَى فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْكَلَامِ .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلًا ثَالِثًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَنَّ التَّأْثِيرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ .
فَمَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ فَقَدْ غَلِطَ وَمَنْ قَالَ بِالِاقْتِرَانِ
كالمتفلسفة فَهُمْ أَعْظَمُ غَلَطًا . وَيَلْزَمُ قَوْلُهُمْ مِنْ الْمُحَالَاتِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ .
وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَعَلَيْهِ يَدُلُّ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3823&ayano=36إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَالْعُقَلَاءُ يَقُولُونَ " قَطَّعْته فَانْقَطَعَ وَكَسَّرْته فَانْكَسَرَ " و " طَلَّقَ الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَعَتَقَ " . فَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَقَعَانِ عَقِبَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ لَا يَتَرَاخَى الْأَثَرُ وَلَا يُقَارَنُ . وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ مَعَ الْقَطْعِ وَالْكَسْرِ .
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْخَلْقُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ عَقِبَهُ كَمَا يُقَالُ : كَوْنُ اللَّهِ الشَّيْءَ فَتَكُونُ . فَتَكُونُهُ عَقِبَ تَكْوِينِ اللَّهِ لَا مَعَ التَّكْوِينِ وَلَا مُتَرَاخِيًا .
[ ص: 382 ] وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=28783_28661الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ .
فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ فَيُوجَدُ الْخَلْقُ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا بِسَبَبِ آخَرَ يَكُونُ هَذَا عَقِبَهُ . فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْأَثَرِ عَقِبَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَالتَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ . وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَخْلُوقٌ .
بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ تَقْتَضِي وُجُودَ الْخَلْقِ كَمَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْكَلَامِ .
وَلَا يَفْتَقِرُ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا بِهِ يَحْصُلُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ . وَإِذَا خَلَقَ شَيْئًا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ .
nindex.php?page=treesubj&link=29620_29626وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ كالهشامية والكرامية قَالَ : نَحْنُ نَقُولُ بِقِيَامِ الْحَوَادِثِ .
وَلَا دَلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ . بَلْ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ
السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .
[ ص: 383 ] وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ
الْفَلَاسِفَةِ إلَى الْحَقِّ
كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُعْتَبَرِ " وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : يَلْزَمُ أَنَّ لِلْخَلْقِ خَلْقًا آخَرَ فَقَدْ أَجَابَهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ
كالكرامية وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ تَحْدُثُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَصْلًا . وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ .
وَهَذَا جَوَابٌ لَازِم عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيرِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ .
والكرامية يُسَمُّونَ مَا قَامَ بِهِ " حَادِثًا " وَلَا يُسَمُّونَهُ " مُحْدَثًا " كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُونَ : هُوَ حَادِثٌ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ " الْحَادِثَ " يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ك " الْفِعْلِ " . وَأَمَّا " الْمُحْدَثُ " فَيَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِهِ إحْدَاثُ غَيْرِ الْمُحْدَثِ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ .
وَأَمَّا غَيْرُ
الكرامية مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " مُحْدَثًا " كَمَا قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=2506&ayano=21مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }
[ ص: 384 ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597873إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } . وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَكَلُّمِهِمْ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَوْلُهُمْ " إنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ وَهَلُمَّ جَرًّا " هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ فِي الْآثَارِ مِثْلُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ .
وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ . فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَخْلُقُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَخْلُقُ . قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1934&ayano=16أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } .
وَحِينَئِذٍ فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28707_29446مَا زَالَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ .
وَبِهَذَا تَزُولُ أَنْوَاعُ الْإِشْكَالِ وَيُعْلَمُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28751مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَصْدَقِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَخْبَارَ الرَّسُولِ .
وَلَكِنْ نَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ جَهْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ
[ ص: 385 ] وَسُلُوكِهِمْ أَدِلَّةً بِرَأْيِهِمْ ظَنُّوهَا عَقْلِيَّةً وَهِيَ جهلية . فَغَلِطُوا فِي الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا {
nindex.php?page=tafseer&surano=185&ayano=2وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ وَذُكِرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ كَلَامِ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذَ الْأَقْوَالِ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَتَكَلَّمَ فِي " الرَّدِّ عَلَى الجهمية " عَلَى قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . وَبَيَّنَ أَنْ " الْجَعْلَ " مِنْ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ " خَلْقًا " كَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=796&ayano=6وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَقَدْ يَكُونُ " فِعْلًا لَيْسَ بِخَلْقِ " وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ خَلْقًا مِثْلُ تَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَتَكَلُّمِهِ
لِمُوسَى وَغَيْرِهِ وَمِثْلُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ إنَّمَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبِأَفْعَالِ أُخَرٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ خَلْقًا .
وَبِهَذَا يُجِيبُ
الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ
للكرامية إذَا قَالُوا : " الْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْدَاثٍ ؟ " فَيَقُولُ : " نَعَمْ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ
[ ص: 386 ] فِعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ " و " التَّسَلْسُلُ " نَلْتَزِمُهُ .
فَإِنَّ التَّسَلْسُلَ الْمُمْتَنِعَ هُوَ وُجُودُ الْمُتَسَلْسِلَاتِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ; كَوُجُودِ خَالِقٍ لِلْخَالِقِ وَخَالِقٍ لِلْخَالِقِ أَوْ لِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا . وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ يَكُونُ " مُحْدَثًا " لَا " مُمْكِنًا " وَلَيْسَ فِيهَا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّسَلْسُلُ وَإِذَا كَانَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " كَانَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامٌ وَقَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ فِعْلٌ " جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ
الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ .
فَإِذَا قِيلَ " هَذَا الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ " كَانَ هَذَا مَعْقُولًا . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِنَا " تَكَلَّمَ بِهِ " . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أَيْ تَكَلَّمْنَا بِهِ عَرَبِيًّا وَأَنْزَلْنَاهُ عَرَبِيًّا .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ
السَّلَفُ كَإِسْحَاقِ بْنِ راهويه وَذَكَرَهُ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } قُلْنَاهُ عَرَبِيًّا ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
إسْحَاقَ بْنِ راهويه قَالَ : ذُكِرَ لَنَا عَنْ
مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
التَّابِعِينَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } إنَّا قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ . وَذَكَرَهُ
[ ص: 387 ] عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ
الأشجعي عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } بَيَّنَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .
وَالْإِنْسَانُ يُفَرِّقُ بَيْنَ تَكَلُّمِهِ وَتَحَرُّكِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ تَحْرِيكِهِ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ
سُفْيَانُ بْنُ عيينة وَغَيْرُهُ مِنْ
السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بـ " كُنْ " . فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَخْلُوقًا بِمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُقُ إلَّا بـ " كُنْ " فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُقَ شَيْئًا . وَهُوَ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ . فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ " كُنْ " وَلَا يَقُولُ " كُنْ " حَتَّى يَخْلُقَهَا فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا . وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي أَصْلِ التَّأْثِيرِ وَالْفِعْلِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَفْعَلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ; وَلَا يَخْلُقُ حَتَّى يَخْلُقَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ .
وَأَمَّا إذَا قِيلَ : قَالَ " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " فَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ . فَإِنَّ هَذَا تَسَلْسُلٌ فِي آحَادِ التَّأْثِيرِ لَا فِي جِنْسِهِ . كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ " كُنْ " بَعْدَ " كُنْ " وَيَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ .
فَالْمَخْلُوقَاتُ التَّامَّةُ يَخْلُقُهَا بِخَلْقِهِ وَخَلْقُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ .
[ ص: 388 ] وَإِذَا قِيلَ : هَذَا الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِهِ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهِ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ذَلِكَ كَافِيًا كَفَى فِي وُجُودِ الْمَخْلُوقِ فَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَهَذَا الْخَلْقُ أَمْرٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ . فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فِيهِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ مُسْتَعْقِبًا لَهُ كَالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ .
وَالْمُتَكَلِّمُ مِنْ النَّاسِ إذَا تَكَلَّمَ فَوُجُودُ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مَسْبُوقٌ بِفِعْلِ آخَرَ . فَلَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ تَسْتَعْقِبُ وُجُودَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ . فَتِلْكَ الْحَرَكَةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْكَلَامَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا وَهُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِالْفَاعِلِ . وَذَلِكَ الْجَعْلُ الْحَادِثُ حَدَثَ بِمُؤَثِّرِ تَامٍّ قَبْلَهُ أَيْضًا .
وَذَاتُ الرَّبِّ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ . فَهِيَ تَقْتَضِي الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ لَا مَعَهُ . وَاقْتِضَاؤُهَا لِلثَّانِي فِعْلٌ يَقُومُ بِهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ . وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ وَهَذَا التَّأْثِيرِ .
ثُمَّ هَذَا التَّأْثِيرِ وَكُلُّ تَأْثِيرٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَشَرْطٌ لِمَا بَعْدَهُ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَتْ " حَادِثَةً " .
وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أُسَمِّي هَذَا " خَلْقًا " كَانَ نِزَاعُهُ لَفْظِيًّا وَقِيلَ لَهُ : الَّذِينَ قَالُوا " الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ " لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا رَدَّ
السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هَذَا . إنَّمَا رَدُّوا قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ
[ ص: 389 ] nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّه مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بَائِنًا عَنْهُ .
وَقَالُوا :
nindex.php?page=treesubj&link=29455_29453_28707الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ .
قَالَ
أَحْمَد : مِنْهُ بَدَأَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ مَخْلُوقٍ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=909&ayano=6وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } .
وَلِهَذَا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ خَلَقَ نُزُولَهُ وَاسْتِوَاءَهُ وَمَجِيئَهُ . وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ
لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ نَادَاهُ وَكَلَّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالتَّكْلِيمُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ فَعَلَ كَلَامًا وَأَحْدَثَ كَلَامًا وَلَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا مُبَايِنًا لَهُ .
وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ صِفَةَ فِعْلٍ وَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ .
وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ : إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ وَيُجْعَلُ الْفِعْلُ بَائِنًا عَنْهُ وَالْكَلَامُ بَائِنًا عَنْهُ . وَمَنْ قَالَ صِفَةَ ذَاتٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28707_29453وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِهِ . فَهُوَ صِفَةُ [ ص: 390 ] ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ . وَلَكِنَّ الْفِعْلَ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ بَلْ كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد : الْجَعْلُ جعلان جَعْلٌ هُوَ خَلْقٌ وَجَعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ .
وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّيَةٌ كَالْخَلْقِ وَأَفْعَالٌ لَازِمَةٌ كَالتَّكَلُّمِ وَالنُّزُولِ .
وَالسَّلَفُ يُثْبِتُونَ النَّوْعَيْنِ هَذَا وَغَيْرَهُ .
وَأَمَّا جَعْلُ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولًا فَفِي " الْكَلَامِ " الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " التَّكَلُّمُ " مُتَّصِلًا بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ " الْكَلَامُ " كِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ .
وَلِهَذَا قَدْ يُرَادُ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْدَرُ . إذَا قُلْت " قَالَ قَوْلًا حَسَنًا " فَقَدْ يُرَادُ بـ " الْقَوْلِ " الْمَصْدَرُ فَقَطْ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ " الْكَلَامُ " فَقَطْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَمَصْدَرًا .
وَكَذَلِكَ " الْقُرْآنُ " هُوَ فِي الْأَصْلِ " قَرَأَ قُرْآنًا " وَهُوَ الْفِعْلُ وَالْحَرَكَةُ ثُمَّ سُمِّيَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ " قُرْآنًا " . قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=5643&ayano=75إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5644&ayano=75فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وَقَالَ فِي الثَّانِي {
nindex.php?page=tafseer&surano=2055&ayano=17إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ } .
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ فِي
[ ص: 391 ] الْأَصْلِ مَصْدَرُ " تَلَا تِلَاوَةً وَقَرَأَ قِرَاءَةً كَالْقُرْآنِ " لَكِنْ يُسَمَّى بِهِ الْكَلَامُ كَمَا يُسَمَّى بِالْقُرْآنِ . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوَّ .
وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ الْمَتْلُوَّ بَلْ تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لَهُ .
وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَتْلُوَّ لِأَنَّ فِيهَا الْفِعْلَ وَلَا تَكُونُ مُبَايِنَةً مُغَايِرَةً لِلْمَتْلُوِّ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ جُزْؤُهَا .
هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِثْلُ قِرَاءَةِ الرَّبِّ وَمَقْرُوئِهِ أَوْ قِرَاءَةِ الْعَبْدِ وَمَقْرُوئِهِ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ وَهِيَ حَرَكَتُهُ وَبِالْمَقْرُوءِ صِفَةُ الرَّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ صِفَةَ الرَّبِّ .
وَلَكِنْ هَذَا تَكَلُّفٌ . بَلْ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ مَقْرُوءُهُ كَمَقْرُوئِهِ . وَقِرَاءَتُهُ لِلْقُرْآنِ إذَا عَنَى بِهَا نَفْسَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَقْرُوءُهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا حَرَكَتَهُ فَلَيْسَتْ مَقْرُوءَهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا الْأَمْرَانِ فَلَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا .
وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ وَاحِدًا
[ ص: 392 ] مِنْهُمَا وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ مِنْ الصَّوَابِ عِنْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْإِنْصَافِ . وَلَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُحِيطُ بِالصَّوَابِ بَلْ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ صَوَابٌ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا يُثْبِتُ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَلَمْ يَقُلْ
الْبُخَارِيُّ إنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا نَهَى
أَحْمَد عَنْ هَذَا وَهَذَا .
وَاَلَّذِي قَالَ
الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ لَمْ يَقُلْ
أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ
السَّلَفِ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الرَّدَّ عَلَى
الجهمية .
وَاَلَّذِي قَالَ
أَحْمَد إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا صِفَةُ الْعِبَادِ لَمْ يَقُلْ
الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ .
وَلَكِنَّ
أَحْمَد كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا إذَا بُلِّغَ عَنْ اللَّهِ
وَالْبُخَارِيَّ كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ .
وَكِلَا الْقَصْدِينَ صَحِيحٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي
[ ص: 393 ] مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُنْحَرِفُونَ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْآخَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .