[ ص: 183 ] فصل [
nindex.php?page=treesubj&link=18998الجواب عن قولهم إن الحيل معاريض فعلية ] : وأما تمسكهم بجواز المعاريض وقولهم : " إن الحيل معاريض فعلية على وزان المعاريض القولية " فالجواب من وجوه : أحدها : أن يقال ومن سلم لكم أن المعاريض إذا تضمنت استباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإبطال الحقوق كانت جائزة ؟ بل هي من الحيل القولية ، وإنما تجوز المعاريض إذا كان فيه تخلص من ظالم ، كما عرض
الخليل بقوله : " هذه أختي " فإذا تضمنت نصر حق أو إبطال باطل كما عرض
الخليل بقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=89إني سقيم } ، وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=63بل فعله كبيرهم هذا } وكما عرض الملكان
لداود بما ضرباه له من المثال الذي نسباه إلى أنفسهما ، وكما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : {
نحن من ماء } وكما كان يوري عن الغزوة بغيرها لمصلحة الإسلام والمسلمين ، إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا ، كما عرض صلى الله عليه وسلم بقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12295إنا حاملوك على ولد الناقة } وبقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11008إن الجنة لا تدخلها العجز } وبقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37628من يشتري مني هذا العبد } يريد
عبد الله ، وبقوله لتلك المرأة : {
زوجك الذي في عينيه بياض } وإنما أراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بني
آدم ، وهذه المعاريض ونحوها من أصدق الكلام ، فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة ؟ .
وقال
شيخنا رضي الله عنه : والذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان ; أحدهما : المعاريض ، وهي : أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ، ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر ; فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما ، فيعني أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما عنى الآخر : إما لكونه لم يعرف إلا ذلك ، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه ، وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا : بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته ، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد ، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الأسباب ، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته ; فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز ، كقول
الخليل : " هذه أختي " وقول النبي صلى الله عليه وسلم : {
نحن من ماء } وقول
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق رضي الله عنه : " هاد يهديني السبيل " ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة :
[ ص: 184 ] شهدت بأن وعد الله حق
الأبيات أوهم امرأته0 القرآن ، وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك .
وهذا الضرب وإن كان نوع حيلة في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به ; أما الأول فلكونه دفع ضرر غير مستحق ، فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع أو نكاح أو إجارة فإنه غش محرم بالنص .
قال
مثنى الأنباري : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : كيف الحديث الذي جاء في المعاريض ؟ فقال : المعاريض لا تكون في الشراء والبيع ، تكون في الرجل يصلح بين الناس أو نحو هذا .
قال
شيخنا : والضابط أن
nindex.php?page=treesubj&link=18998_19000_18999كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام ; لأنه كتمان وتدليس ، ويدخل في هذا الإقرار بالحق ، والتعريض في الحلف عليه ، والشهادة على العقود ، ووصف المعقود عليه ، والفتيا والحديث والقضاء ،
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز ، بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب ، كالتعريض لسائل عن مال معصوم أو نفسه يريد أن يعتدي عليه ، وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا ; فإما أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة ; فإن كان الأول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده ، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد عن
المروزي ، وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك
وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة ، والإظهار مستحب ، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا ، وإن تساوى الأمران وكان كل منهما طريقا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران ، كما لو كان يعرف بعدة ألسن وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده ، ومثل هذا ما لو كان
nindex.php?page=treesubj&link=18998له غرض مباح في التعريض ولا حذر عليه في التصريح ، والمخاطب لا يفهم مقصوده ، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، أحدها : له
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998التعريض ; إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرارا بغير مستحق .
والثاني : ليس له ذلك ، فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة إليه ، وذلك تغرير ، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب ، وقد يترتب عليه ضرر به .
والثالث له التعريض في غير اليمين .
[ ص: 185 ]
وقال
الفضيل بن زياد : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد عن
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به ، قال : إذا لم يكن يمينا فلا بأس ، في
nindex.php?page=treesubj&link=18998_18997المعاريض مندوحة عن الكذب ، وهذا عند الحاجة إلى الجواب ، فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر ، كما دل عليه حديث
أم كلثوم أنه لم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث ، وكلها مما يحتاج إليه المتكلم ، وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يرده بكلامه ، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته ، وقد تكون مفسدته أرجح من مصلحته ، وقد يتعارض الأمران ، ولا ريب أن من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم ، وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل أن تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان فله أن يكتمه عن السامع ; فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرض له .
فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببا يفضي إليه ; فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه ، فأين أحد البابين من الآخر ؟ وهل هذا إلا من أفسد القياس ؟ وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذكى .
فصل فهذا الفرق من جهة المحتال عليه ، وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرض إنما تكلم بحق ، ونطق بصدق فيما بينه وبين الله ، لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه ، وإنما كان عدم الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في فهم دلالة اللفظ ، ومعاريض النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه كانت من هذا النوع ، كقوله : {
نحن من ماء } وقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12295إنا حاملوك على ولد الناقة } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=42380ولا يدخل الجنة العجز } {
وزوجك الذي في عينيه بياض } وأكثر معاريض السلف كانت من هذا ، ومن هذا الباب التدليس في الإسناد ، لكن هذا مكروه لتعلقه بالدين وكون البيان في العلم واجبا ، بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم .
[ المعاريض على نوعين ]
nindex.php?page=treesubj&link=18998والمعاريض نوعان ; أحدهما : أن يستعمل اللفظ في حقيقته وما وضع له فلا يخرج به عن ظاهره ، ويقصد فردا من أفراد حقيقته ، فيتوهم السامع أنه قصد غيره : إما لقصور فهمه ، وإما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره ، وإما لشاهد الحال عنده ، وإما لكيفية
[ ص: 186 ] المخبر وقت التكلم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو ذلك ، وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفية وجدت عامتها من هذا النوع ، والثاني : أن يستعمل العام في الخاص والمطلق في المقيد ، وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز ، وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد ; فإن لفظ الأسد والبحر والشمس عند الإطلاق له معنى ، وعند التقييد له معنى يسمونه المجاز ، ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولا بين قيد وقيد ، فإن قالوا : " كل مقيد مجاز " لزمهم أن يكون كل كلام مركب مجازا ; فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق ، وإن قالوا : " بعض القيود يجعله مجازا دون بعض " سئلوا عن الضابط ما هو ، ولن يجدوا إليه سبيلا ، وإن قالوا : " يعتبر اللفظ المفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب ، وهناك يحكم عليه بالحقيقة والمجاز " . قيل لهم : هذا أبعد وأشد فسادا ; فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئا ، وإنما إفادتها بعد تركيبها ، وأنتم قلتم : الحقيقة هي اللفظ المستعمل ، وأكثركم يقول : استعمال اللفظ فيما وضع له أولا ، والمجاز بالعكس ; فلا بد في الحقيقة والمجاز من استعمال اللفظ فيما وضع له ، وهو إنما يستعمل بعد تركيبه ، وحينئذ فتركيبه بعده بقيود يفهم منها مراد المتكلم ، فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازا ؟
وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض فإنه باطل من أكثر من أربعين وجها ، وإنما الغرض التنبيه على نوعي التعريض ، وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون بإخراجه عن ظاهره ، ولا يذكر المعرض قرينة تبين مراده ، ومن هذا النوع عامة التعريض في الأيمان والطلاق ، كقوله : " كل امرأة له فهي طالق " وينوي في بلد كذا وكذا ، أو ينوي فلانة ، أو قوله : " أنت طالق " وينوي من زوج كان قبله ونحو ذلك ; فهذا القسم شيء والذي قبله شيء ، فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورته ما
. لم يجعله الشارع مقتضيا له بوجه بل جعله مقتضيا لضده ؟ ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارا صلاحيته له إنشاء ; فإنه لو قال : " تزوجت " في المعاريض وعنى نكاحا فاسدا كان صادقا كما لو بينه ، ولو قال : " تزوجت " إنشاء وكان فاسدا لم ينعقد ، وكذلك في جميع الحيل ; فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد أن يسترجع مثل قرضه ، ولم يشرعه لمن قصد أن يأخذ أكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها ، وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض في تمليك الثمن وتمليك السلعة ، ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في
[ ص: 187 ] السلعة ، وإنما غرضهما الربا ، وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة ، لم يشرعه للمحلل ، وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسها من الزوج تتخلص منه من سوء العشرة ، ولم يشرعه للتحيل على الحنث قط .
وكذلك التمليك لم يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والإحسان إليه بتمليكه سواء كان محتاجا أو غير محتاج ، ولم يشرعه لإسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قط ، وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يسقط بها حقا ولا يضر بها أحدا ، ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق أو إضرارا لغير مستحق .
[ ص: 183 ] فَصْلٌ [
nindex.php?page=treesubj&link=18998الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ ] : وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِجَوَازِ الْمَعَارِيضِ وَقَوْلِهِمْ : " إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ الْقَوْلِيَّةِ " فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ إذَا تَضَمَّنَتْ اسْتِبَاحَةَ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطَ الْوَاجِبَاتِ وَإِبْطَالَ الْحُقُوقِ كَانَتْ جَائِزَةً ؟ بَلْ هِيَ مِنْ الْحِيَلِ الْقَوْلِيَّةِ ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ إذَا كَانَ فِيهِ تَخَلُّصٌ مِنْ ظَالِمٍ ، كَمَا عَرَّضَ
الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ : " هَذِهِ أُخْتِي " فَإِذَا تَضَمَّنَتْ نَصْرَ حَقٍّ أَوْ إبْطَالَ بَاطِلٍ كَمَا عَرَّضَ
الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=89إنِّي سَقِيمٌ } ، وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=63بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وَكَمَا عَرَّضَ الْمَلَكَانِ
لِدَاوُدَ بِمَا ضَرَبَاهُ لَهُ مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي نَسَبَاهُ إلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَكَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : {
نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَكَمَا كَانَ يُوَرِّي عَنْ الْغَزْوَةِ بِغَيْرِهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ ، إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا ، كَمَا عَرَّضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12295إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } وَبِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11008إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا الْعُجُزُ } وَبِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37628مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ } يُرِيدُ
عَبْدَ اللَّهِ ، وَبِقَوْلِهِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ : {
زَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ } وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي عُيُونِ بَنِي
آدَمَ ، وَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ ، فَأَيْنَ فِي جَوَازِ هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ ؟ .
وَقَالَ
شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ وَلَيْسَتْ مِثْلُهُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : الْمَعَارِيضُ ، وَهِيَ : أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا ، وَيُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ ; فَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ الْوَهْمِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْن حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ شَرْعِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا ، فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيُوهِمُ السَّامِعَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ : إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ ، وَإِمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيه ، وَإِمَّا لِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ يَضُمُّهَا إلَى اللَّفْظِ ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا : بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ لِعُرْفٍ خَاصٍّ بِهِ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ جَهْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ ، مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ ; فَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ رَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهُوَ جَائِزٌ ، كَقَوْلِ
الْخَلِيلِ : " هَذِهِ أُخْتِي " وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ " وَمِنْهُ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=82عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ :
[ ص: 184 ] شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
الْأَبْيَاتَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ0 الْقُرْآنَ ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَضَمَّنَ دَفْعَ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ .
وَهَذَا الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ حِيلَةٍ فِي الْخِطَابِ لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالُ بِهِ ; أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَوْنِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ ، فَلَوْ تَضَمَّنَ كِتْمَانَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصِيحَةِ مُسْلِمٍ أَوْ التَّعْرِيفَ بِصِفَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّهُ غِشٌّ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ .
قَالَ
مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ : قُلْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ ؟ فَقَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا .
قَالَ
شَيْخُنَا : وَالضَّابِطُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18998_19000_18999كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ ، وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ ، وَوَصْفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْفُتْيَا وَالْحَدِيثُ وَالْقَضَاءُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998وَكُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ ، بَلْ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ وَوَجَبَ الْخِطَابُ ، كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا ; فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي كِتْمَانِهِ أَوْ فِي إظْهَارِهِ أَوْ كِلَاهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلْمَصْلَحَةِ ; فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالتَّعْرِيضُ مُسْتَحَبٌّ كَتَوْرِيَةِ الْغَازِي عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ ، وَتَوْرِيَةِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَاعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَتَوْرِيَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ عَنْ
الْمَرْوَزِيِّ ، وَتَوْرِيَةِ الْحَالِفِ لِظَالِمٍ لَهُ أَوْ لِمَنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّوْرِيَةُ فِيهِ مَكْرُوهَةٌ ، وَالْإِظْهَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَهَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا ، وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقًا إلَى الْمَقْصُودِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ جَازَ الْأَمْرَانِ ، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَخِطَابُهُ بِكُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ ، وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=18998لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي التَّعْرِيضِ وَلَا حَذَرَ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيحِ ، وَالْمُخَاطَبُ لَا يَفْهَمُ مَقْصُودُهُ ، وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ ، أَحَدُهَا : لَهُ
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998التَّعْرِيضُ ; إذْ لَا يَتَضَمَّنُ كِتْمَانَ حَقٍّ وَلَا إضْرَارًا بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ .
وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إيهَامٌ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ تَغْرِيرٌ ، وَرُبَّمَا أَوْقَعَ السَّامِعَ فِي الْخَبَرِ الْكَاذِبِ ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ .
وَالثَّالِثُ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ .
[ ص: 185 ]
وَقَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ زِيَادٍ : سَأَلْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18997_18998الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ ، قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فَلَا بَأْسَ ، فِي
nindex.php?page=treesubj&link=18998_18997الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْجَوَابِ ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ
أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ ، وَكُلُّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَغَايَةُ هَذَا الْقِسْمِ تَجْهِيلُ السَّامِعِ بِأَنْ يُوقِعَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِكَلَامِهِ ، وَهَذَا التَّجْهِيلُ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ تَجْهِيلُهُ بِهِ وَكِتْمَانُهُ عَنْهُ أَصْلَحُ لَهُ وَلِلْمُتَكَلِّمِ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْقَائِلِ أَنْ تَفُوتَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ هِيَ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيَانِ فَلَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَنْ السَّامِعِ ; فَإِنْ أَبَى إلَّا اسْتِنْطَاقَهُ فَلَهُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ .
فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ وَنَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ ; فَلَا يُقَاسُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ وَتَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ ، فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ؟ وَهُوَ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَالْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى .
فَصْلٌ فَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعَرِّضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ ، وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الظُّهُورِ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي فَهْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِزَاحُهُ كَانَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، كَقَوْلِهِ : {
نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12295إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=42380وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْعُجُزُ } {
وَزَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ } وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ ، لَكِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالدِّينِ وَكَوْنِ الْبَيَانِ فِي الْعِلْمِ وَاجِبًا ، بِخِلَافِ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ ظَالِمٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ .
[ الْمَعَارِيضُ عَلَى نَوْعَيْنِ ]
nindex.php?page=treesubj&link=18998وَالْمَعَارِيضُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَا وُضِعَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَيَقْصِدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَتِهِ ، فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ قَصَدَ غَيْرَهُ : إمَّا لِقُصُورِ فَهْمِهِ ، وَإِمَّا لِظُهُورِ ذَلِكَ الْفَرْدِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا لِشَاهِدِ الْحَالِ عِنْدَهُ ، وَإِمَّا لِكَيْفِيَّةِ
[ ص: 186 ] الْمُخْبِرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ مِنْ ضَحِكٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ إشَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْمَعَارِيضَ النَّبَوِيَّةَ وَالسَّلَفِيَّةَ وَجَدْتَ عَامَّتَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْعَامُّ فِي الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ فِي الْمُقَيَّدِ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ ، وَلَيْسَ يُفْهَمُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ مَعْنًى ، وَعِنْدَ التَّقْيِيدِ لَهُ مَعْنًى يُسَمُّونَهُ الْمَجَازُ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُقَيَّدٍ وَلَا بَيْنَ قَيْدٍ وَقَيْدٍ ، فَإِنْ قَالُوا : " كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازٌ " لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مُرَكَّبٍ مَجَازًا ; فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُقَيِّدُهُ بِقُيُودٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنْ قَالُوا : " بَعْضُ الْقُيُودِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا دُونَ بَعْضٍ " سُئِلُوا عَنْ الضَّابِطِ مَا هُوَ ، وَلَنْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا ، وَإِنْ قَالُوا : " يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ قَبْلَ التَّرْكِيبِ ، وَهُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ " . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا أَبْعَدُ وَأَشَدُّ فَسَادًا ; فَإِنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا وَلَا تُفِيدُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا إفَادَتُهَا بَعْدَ تَرْكِيبِهَا ، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ : الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ ، وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ : اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا ، وَالْمَجَازُ بِالْعَكْسِ ; فَلَا بُدَّ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ ، وَهُوَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ تَرْكِيبِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَتَرْكِيبُهُ بَعْدَهُ بِقُيُودٍ يُفْهَمُ مِنْهَا مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ ، فَمَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَ بَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ حَقِيقَةً وَمَعَ بَعْضِهَا مَجَازًا ؟
وَلَيْسَ الْغَرَضُ إبْطَالَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْحَادِثِ الْمُبْتَدَعِ الْمُتَنَاقِضِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَوْعَيْ التَّعْرِيضِ ، وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي ظَاهِرِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَلَا يَذْكُرُ الْمُعَرِّضُ قَرِينَةً تُبَيِّنُ مُرَادَهُ ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَامَّةُ التَّعْرِيضِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ ، كَقَوْلِهِ : " كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ " وَيَنْوِي فِي بَلَدِ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ يَنْوِي فُلَانَةَ ، أَوْ قَوْلُهُ : " أَنْت طَالِقٌ " وَيَنْوِي مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; فَهَذَا الْقَسَمُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْءٌ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَصْدِ الْمُحْتَالِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ أَوْ صُورَتِهِ مَا
. لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لَهُ بِوَجْهٍ بَلْ جَعَلَهُ مُقْتَضِيًا لِضِدِّهِ ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارًا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ إنْشَاءً ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : " تَزَوَّجْتُ " فِي الْمَعَارِيضِ وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا كَانَ صَادِقًا كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ ، وَلَوْ قَالَ : " تَزَوَّجْتُ " إنْشَاءً وَكَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْعَقِدْ ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحِيَلِ ; فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ الْقَرْضَ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا بِحِيلَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا شَرَعَ الْبَيْعَ لِمَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَنِ وَتَمْلِيكِ السِّلْعَةِ ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الثَّمَنِ وَلَا فِي الْمُثَمَّنِ وَلَا فِي
[ ص: 187 ] السِّلْعَةِ ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا الرِّبَا ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِرَاغِبٍ فِي الْمَرْأَةِ ، لَمْ يَشْرَعْهُ لِلْمُحَلِّلِ ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِلْمُفْتَدِيَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِلتَّحَيُّلِ عَلَى الْحِنْثِ قَطُّ .
وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا لِمَنْ قَصَدَ نَفْعَ الْغَيْرِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا قَطُّ ، وَكَذَلِكَ الْمَعَارِيض لَمْ يَشْرَعْهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا أَوْ لِمَنْ لَا يُسْقِطُ بِهَا حَقًّا وَلَا يَضُرُّ بِهَا أَحَدًا ، وَلَمْ يَشْرَعْهَا إذَا تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقٍّ أَوْ إضْرَارًا لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ .