المسألة الثالثة : قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شهادة بينكم } وقد تقدم معنى ( شهيد ) في هذه السورة أيضا بعينها ، وبينا اختلاف أنواعها ، وقد وردت في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة ، منها قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282واستشهدوا شهيدين من رجالكم } قيل : معناه أحضروا .
ومنها قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله أنه لا إله إلا هو } قضى .
ومنها شهد ، أي أقر ، كقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=166والملائكة يشهدون } .
ومنها شهد بمعنى حكم ; قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=26وشهد شاهد من أهلها } .
ومنها شهد بمعنى حلف ، كما جاء في اللعان .
ومنها شهد بمعنى علم . كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106ولا نكتم شهادة الله } أي علم الله .
ومنها شهد بمعنى وصى ، كقوله هاهنا : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } . انتهى كلامه .
وقد نقص موارد منه ، منها قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=81وما شهدنا إلا بما علمنا } .
[ ص: 236 ]
المسألة الرابعة : في ذلك تحقيق ذلك :
وهو أن بناء " شهد " موضوع للعبارة عما يعلم بدرك الحواس ، كما أن " غيب " موضوع للعبارة عما لم يدرك بها ولذلك قلنا : إن الباري تعالى وتقدس عالم الغيب والشهادة فمعنى شهدت : أدركت بحواسي ، أي علمت بهذه الطريق التي جعلها الله سبحانه طرقا لعلمي ، ثم ينقل مجازا إلى متعلقاته ،
nindex.php?page=treesubj&link=14297فمعنى شهد الله : علم مشاهدة ، وأخبر عما علم بكلامه ، وهذا يكون في المحدث ، فإذا ثبت هذا فقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أي أحضروا من يعلم لكم ما يشاهد من عقدكم .
وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله } أي علم وأخبر عن علمه ، وبين ما علم لنا حتى نتبينه . فأخبر عن حكمه ، فيرجع إلى علمه سبحانه عما يخبر عنه ، لارتباط الخبر والعلم . وشهد بمعنى حلف مثله ; لأنه أخبر عن حاله ، وقرن بخبره تعظيم الله سبحانه وتعالى .
وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106ولا نكتم شهادة الله } يريد ما علمناه وعلمه الله معنا ، فإن صدق وإلا كان خبره عن علم الله كذبا ، والله سبحانه العالم الذي لا يجهل ، والصادق المتقدس عن الكذب .
وأما شهد بمعنى وصى فلا معنى له إلا على بعد لا يحتاج إليه .
وأما قوله تعالى :
nindex.php?page=treesubj&link=14297_17915 { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شهادة بينكم } في هذه الآية فهي عند العلماء على ثلاثة أقوال : أحدها بمعنى حلف . والثاني : بمعنى حضر للتحمل . والثالث : بمعنى الأداء عند الحاكم . تقول : أشهد عندك ، أي حضرت لأؤدي عندك ما علمت ، وأداؤها بلفظ الشهادة بعيد لا درك عند العلماء لمعناه ، ولا يجزي غيره عنه .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106بينكم }
قال بعض علمائنا : معناه شهادة ما بينكم ، فحذفت ما ، وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، استعمل البين اسما على الحقيقة ، كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=33بل مكر الليل والنهار } . وأنشدوا
: تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعني غيب عينيك منزوي
[ ص: 237 ] وأنشدوا :
وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أتى آجله
وتحقيق القول فيه أن " بين " في أصله مصدر قولك : بان يبين بينا أي فارق ما كان مجتمعا معه ، وانفصل عما كان متصلا به ، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34072ما أبين من حي فهو ميت } . المعنى ما فصل من أعضاء الحيوان عنه حال حياته فهو ميتة يعني لا يحل أكله ; واستعمل ظرفا على معنى الصدر ، وهو باب من أبواب النحو ، تقول : بين الدار والمسجد مسافة . ولو كانا مجتمعين لم يكن بينهما بين ، أي موضع خال منهما . وما كان الاجتماع على ضربين : اجتماع أجسام ، واجتماع معان ، وهي الأخلاق والأهواء جعل افتراق الأهواء كافتراق الأجسام ، واستعمل فيه " بين " الذي هو الافتراق فيهما جميعا .
والدليل عليه قول الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5ومن بيننا وبينك حجاب } .
وعلى هذا يحمل قوله : بيني وبينه رحم ، أي ما افترقنا إلا عن أصل واحد . وبيني وبينه شركة أي افترقنا في كل شيء إلا عن جمع المال المخصوص .
فقال أهل الصناعة : هو مصدر في المعاني ، ظرف في الأجسام لما كانت ذوات مساحات محسوسات فرقا بينها وبين المعاني ، والكل في الحقيقة تباين وتباعد وفرقة .
ومنه قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لقد تقطع بينكم } مرفوعا ومنصوبا .
المعنى : لقد تقطع تباعدكم وافتراقكم بحيث لا يكون له اتصال ; فإن الذي يبين على قسمين ، منه ما يرجى له اتصال ، ومنه ما لا يرجى له اتصال ، فيعبر عنه بالتقطع .
وقد جعل أهل الصناعة هنا " بين " للظرف ، وكثر ذلك حتى جعل اسما في الأهواء المتباينة ، مجازا يعبر به عنها ، وعليه يخرج : لقد تقطع بينكم على قراءة الرفع . المعنى : لقد تفرقت أهواؤكم وأخلاقكم .
[ ص: 238 ]
وتارة تضاف بالكناية إليه فيقال : ذات البين . قال الله سبحانه : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=1فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } .
قال الشاعر :
وأهل خباء صالح ذات بينهم
كما تقدم .
ويقال : الأمر الذي بينكم ، وما بينكم مبهم ، معناه الأمر الذي فرقكم . فإذا ثبت هذا
nindex.php?page=treesubj&link=14297_17915فمعنى قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شهادة بينكم } ، أي شهادة اختلافكم وتنازعكم ; فتكون الشهادة مضافة إلى المصدر ، لا إلى الظرف ولا على تقدير محذوف . وهذه غاية البيان ، ولو هدي له من تكلم على الآية وما تخبط فيها ولا خلط معانيها .
المسألة السادسة : قوله تعالى :
nindex.php?page=treesubj&link=16174_14297_25299 { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180إذا حضر أحدكم الموت } :
ولفظ {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180حضر } يعبر به عن الوجود مشاهدة ، وضده غاب ، وهو أيضا عبارة عن الوجود الذي لم يشاهد ، وقد يعبر بقولك : " غاب " عن المعدوم . والباري سبحانه عالم الغيب والشهادة ; أي عالم الموجود والمعدوم ؟ لأنه مثل الوجود في عدم المشاهدة .
وقد وردت هذه اللفظة عبارة عن الموت في كتاب الله حقيقة ، وهو في قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت } . وفي قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=99حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون } فهو في هذين الموضعين حقيقة الوجود مشاهدة .
وأما ورودها مجازا فبأن يعبر عن حضور سببه بحضوره ، وهو المرض ، فيعبر عن المسبب بالسبب ، وهو أحد قسمي المجاز ، كما بيناه في غير موضع .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ( شَهِيدٍ ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَنْوَاعِهَا ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } قِيلَ : مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } قَضَى .
وَمِنْهَا شَهِدَ ، أَيْ أَقَرَّ ، كَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=166وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ } .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَكَمَ ; قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=26وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ ، كَمَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ . كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أَيْ عِلْمَ اللَّهِ .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } . انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ نَقَصَ مَوَارِدُ مِنْهُ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=81وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } .
[ ص: 236 ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ :
وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " شَهِدَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُعْلَمُ بِدَرْكِ الْحَوَاسِّ ، كَمَا أَنَّ " غَيَّبَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا لَمْ يُدْرَكْ بِهَا وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَمَعْنَى شَهِدْت : أَدْرَكْت بِحَوَاسِّي ، أَيْ عَلِمْت بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ طُرُقًا لِعِلْمِي ، ثُمَّ يُنْقَلُ مَجَازًا إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=14297فَمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ : عَلِمَ مُشَاهَدَةً ، وَأَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَ بِكَلَامِهِ ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُحَدِّثِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَعْلَمُ لَكُمْ مَا يُشَاهِدُ مِنْ عَقْدِكُمْ .
وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ } أَيْ عَلِمَ وَأَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ ، وَبَيَّنَ مَا عَلِمَ لَنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَهُ . فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ ، فَيَرْجِعُ إلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُخْبِرُ عَنْهُ ، لِارْتِبَاطِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ . وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ مِثْلُهُ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ ، وَقَرَنَ بِخَبَرِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } يُرِيدُ مَا عَلِمْنَاهُ وَعَلِمَهُ اللَّهُ مَعَنَا ، فَإِنْ صَدَقَ وَإِلَّا كَانَ خَبَرُهُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ كَذِبًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ ، وَالصَّادِقُ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْكَذِبِ .
وَأَمَّا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى فَلَا مَعْنَى لَهُ إلَّا عَلَى بُعْدٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :
nindex.php?page=treesubj&link=14297_17915 { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا بِمَعْنَى حَلَفَ . وَالثَّانِي : بِمَعْنَى حَضَرَ لِلتَّحَمُّلِ . وَالثَّالِثُ : بِمَعْنَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ . تَقُولُ : أَشْهَدُ عِنْدَك ، أَيْ حَضَرْت لِأُؤَدِّيَ عِنْدَك مَا عَلِمْت ، وَأَدَاؤُهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ بَعِيدٌ لَا دَرْكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِمَعْنَاهُ ، وَلَا يُجْزِي غَيْرُهُ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106بَيْنِكُمْ }
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : مَعْنَاهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنِكُمْ ، فَحُذِفَتْ مَا ، وَأُضِيفَتْ الشَّهَادَةُ إلَى الظَّرْفِ ، اُسْتُعْمِلَ الْبَيْنُ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=33بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } . وَأَنْشَدُوا
: تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْت لِي ذَا عَدَاوَةٍ صِفَاحًا وَعَنِّي غَيْبُ عَيْنَيْك مُنْزَوِي
[ ص: 237 ] وَأَنْشَدُوا :
وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ قَدْ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَتَى آجِلُهُ
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ " بَيْنَ " فِي أَصْلِهِ مَصْدَرُ قَوْلِك : بَانَ يَبِينُ بَيْنًا أَيْ فَارَقَ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ ، وَانْفَصَلَ عَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34072مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ } . الْمَعْنَى مَا فُصِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَهُوَ مَيْتَةٌ يَعْنِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ; وَاسْتُعْمِلَ ظَرْفًا عَلَى مَعْنَى الصَّدْر ، وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّحْوِ ، تَقُولُ : بَيْنَ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ مَسَافَةٌ . وَلَوْ كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْنٌ ، أَيْ مَوْضِعٌ خَالٍ مِنْهُمَا . وَمَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : اجْتِمَاعُ أَجْسَامٍ ، وَاجْتِمَاعُ مَعَانٍ ، وَهِيَ الْأَخْلَاقُ وَالْأَهْوَاءُ جَعَلَ افْتِرَاقَ الْأَهْوَاءِ كَافْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ ، وَاسْتَعْمَلَ فِيهِ " بَيْنَ " الَّذِي هُوَ الِافْتِرَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ } .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ : بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ ، أَيْ مَا افْتَرَقْنَا إلَّا عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ . وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ أَيْ افْتَرَقْنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَنْ جَمْعِ الْمَالِ الْمَخْصُوصِ .
فَقَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ : هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْمَعَانِي ، ظَرْفٌ فِي الْأَجْسَامِ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ مِسَاحَاتٍ مَحْسُوسَاتٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي ، وَالْكُلُّ فِي الْحَقِيقَةِ تَبَايُنٌ وَتَبَاعُدٌ وَفُرْقَةٌ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا .
الْمَعْنَى : لَقَدْ تَقَطَّعَ تَبَاعُدُكُمْ وَافْتِرَاقُكُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اتِّصَالٌ ; فَإِنَّ الَّذِي يَبِينُ عَلَى قِسْمَيْنِ ، مِنْهُ مَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ ، وَمِنْهُ مَا لَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ ، فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقَطُّعِ .
وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ هُنَا " بَيْنَ " لِلظَّرْفِ ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى جُعِلَ اسْمًا فِي الْأَهْوَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ ، مَجَازًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ . الْمَعْنَى : لَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَهْوَاؤُكُمْ وَأَخْلَاقُكُمْ .
[ ص: 238 ]
وَتَارَةً تُضَافُ بِالْكِنَايَةِ إلَيْهِ فَيُقَالُ : ذَاتُ الْبَيْنِ . قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=1فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } .
قَالَ الشَّاعِرُ :
وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيُقَالُ : الْأَمْرُ الَّذِي بَيْنَكُمْ ، وَمَا بَيْنَكُمْ مُبْهَمٌ ، مَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي فَرَّقَكُمْ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=14297_17915فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ، أَيْ شَهَادَةُ اخْتِلَافِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ ; فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُضَافَةً إلَى الْمَصْدَرِ ، لَا إلَى الظَّرْفِ وَلَا عَلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ . وَهَذِهِ غَايَةُ الْبَيَانِ ، وَلَوْ هُدِيَ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ وَمَا تَخَبَّطَ فِيهَا وَلَا خَلَطَ مَعَانِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :
nindex.php?page=treesubj&link=16174_14297_25299 { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } :
وَلَفْظُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180حَضَرَ } يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً ، وَضِدُّهُ غَابَ ، وَهُوَ أَيْضًا عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ الَّذِي لَمْ يُشَاهَدْ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِقَوْلِك : " غَابَ " عَنْ الْمَعْدُومِ . وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ; أَيْ عَالِمُ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ؟ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْوُجُودِ فِي عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ .
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبَارَةً عَنْ الْمَوْتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ } . وَفِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=99حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } فَهُوَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً .
وَأَمَّا وُرُودُهَا مَجَازًا فَبِأَنْ يُعَبَّرَ عَنْ حُضُورِ سَبَبِهِ بِحُضُورِهِ ، وَهُوَ الْمَرَضُ ، فَيُعَبَّرَ عَنْ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .