المسألة الرابعة قد جرى في هذه الآية غريبة قد بيناها حيث وقعت من كلامنا ، ذكرها جميع علمائنا مع أحزاب الطوائف ، وهي مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=22199النسخ قبل الفعل ; لأنه
nindex.php?page=treesubj&link=22199رفع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ، ولو لم يتصور رفعه .
وقال المخالفون : إنه لم ينسخ ، ولكنه نفذ الذبح ، وكان كلما قطع جزءا التأم ، فاجتمع الذبح والإعادة لموضعها حسبما كانت .
وقالت طائفة : وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس ، فكان كلما أراد قطعا وجد منعا ; وذلك كله جائز في القدرة الإلهية ; ولكن يفتقر إلى نقل صحيح ، فإنه لا يدرك بالنظر ; وإنما طريقه الخبر ، وكان الذبح والتئام الأجزاء بعد ذلك أوقع في مطلوبهم من وضع النحاس موضع الجلد واللحم ، وكله أمر بعيد من العلم ; وباب التحقيق فيها ومسلكه ما بيناه واخترناه ، فأوضحنا لبابه الذي لم نسبق إليه إن شاء الله تعالى : قال مخبرا عن
إبراهيم : إنه قال لولده : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا }
وقد ثبت أن رؤيا الأنبياء وحي ; لأن الرؤيا إما أن تكون من غلبة الأخلاط كما تقول
الفلاسفة وتلك أخلاط ، وأيها فليس لها بالأنبياء أخلاط ، وإما أن تكون من حديث النفس ولم يحدث
إبراهيم قط نفسه بذبح ولده ، وإما أن تكون من تلاعب الشيطان ، فليس للشيطان على الأنبياء سبيل في تخييل ولا تلاعب ، حسبما بيناه وقررناه ومهدناه وبسطناه .
فقال
إبراهيم لابنه : رأيت أني أذبحك في المنام ، فأخذ الوالد والولد الرؤيا بظاهرها واسمها ، وقال له : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افعل ما تؤمر } ; إذ هو أمر من قبل الله تعالى ، لأنهما علما أن رؤيا الأنبياء وحي الله ، واستسلما لقضاء الله ; هذا في قرة عينه ، وهذا في نفسه أعطي ذبحا فداء
[ ص: 27 ] وقيل له : هذا فداؤك ، فامتثل فيه ما رأيت فإنه حقيقة ما خاطبناك فيه ، وهو كناية لا اسم ، وجعله مصدقا للرؤيا بمبادرته الامتثال ، فإنه لا بد من اعتقاد الوجوب والتهيؤ للعمل .
فلما اعتقدا الوجوب ، وتهيآ للعمل ، هذا بصورة الذابح ، وهذا بصورة المذبوح ، أعطي محلا للذبح فداء عن ذلك المرئي في المنام ، يقع موضعه برسم الكناية وإظهار الحق الموعود فيه .
فإن قيل : قد قال له الولد : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يا أبت افعل ما تؤمر } فأين الأمر ؟ قلنا : هما كلمتان إحداهما من الوالد
إبراهيم ، والثانية من الولد
إسماعيل . فأما كلمة
إبراهيم فهي قوله أذبحك ، وهو خبر لا أمر ، وأما كلمة
إسماعيل : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افعل ما تؤمر } وهو أمر ، وقول
إبراهيم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102إني أرى في المنام أني أذبحك } وإن كانت [ صيغته ] صيغة الخبر فإن معناها الأمر ضرورة ; لأن لو كان عبارة عن خبر واقع لما كان له تأويل ينتظر ، وإنما هو بصيغة الخبر ، ومعناه الأمر ضرورة . فقال
إسماعيل لأبيه
إبراهيم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افعل ما تؤمر } ; فعبر عن نفسه بالانقياد إلى معنى خبر أبيه ، وهو الأمر ، ولذلك قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105قد صدقت الرؤيا } حين تيسرا للعمل ، وأقبلا على الفعل ; فكان صدقها ذبحها مكانها ، وهو الفداء ، وكان ذلك أمرا في المعنى ضرورة ، فكان ما كان من
إبراهيم امتثالا ، ومن
إسماعيل انقيادا ، ووضحت المعاني بحقيقتها ، وجرت الألفاظ على نصابها لصوابها ، ولم يحتج إلى تأويل فاسد يقلب الجلد نحاسا أو غيره .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا حَيْثُ وَقَعَتْ مِنْ كَلَامِنَا ، ذَكَرَهَا جَمِيعُ عُلَمَائِنَا مَعَ أَحْزَابِ الطَّوَائِفِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=22199النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=22199رَفَعَ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ ، وَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ .
وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ ، وَلَكِنَّهُ نُفِّذَ الذَّبْحُ ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ ، فَاجْتَمَعَ الذَّبْحُ وَالْإِعَادَةُ لِمَوْضِعِهَا حَسْبَمَا كَانَتْ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا ; وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ; وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ ; وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَكَانَ الذَّبْحُ وَالْتِئَامُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَعَ فِي مَطْلُوبِهِمْ مِنْ وَضْعِ النُّحَاسِ مَوْضِعَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ، وَكُلُّهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ مِنْ الْعِلْمِ ; وَبَابُ التَّحْقِيقِ فِيهَا وَمَسْلَكُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَاخْتَرْنَاهُ ، فَأَوْضَحْنَا لِبَابِهِ الَّذِي لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ مُخْبِرًا عَنْ
إبْرَاهِيمَ : إنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا }
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; لِأَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ كَمَا تَقُولُ
الْفَلَاسِفَةُ وَتِلْكَ أَخْلَاطٌ ، وَأَيُّهَا فَلَيْسَ لَهَا بِالْأَنْبِيَاءِ أَخْلَاطٌ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَلَمْ يُحَدِّثْ
إبْرَاهِيمُ قَطُّ نَفْسَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَبِيلٌ فِي تَخْيِيلٍ وَلَا تَلَاعُبٍ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَمَهَّدْنَاهُ وَبَسَّطْنَاهُ .
فَقَالَ
إبْرَاهِيمُ لِابْنِهِ : رَأَيْت أَنِّي أَذْبَحُك فِي الْمَنَامِ ، فَأَخَذَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ الرُّؤْيَا بِظَاهِرِهَا وَاسْمِهَا ، وَقَالَ لَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ; إذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيُ اللَّهِ ، وَاسْتَسْلَمَا لِقَضَاءِ اللَّهِ ; هَذَا فِي قُرَّةِ عَيْنِهِ ، وَهَذَا فِي نَفْسِهِ أُعْطِيَ ذِبْحًا فِدَاءً
[ ص: 27 ] وَقِيلَ لَهُ : هَذَا فِدَاؤُك ، فَامْتَثِلْ فِيهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ حَقِيقَةُ مَا خَاطَبْنَاك فِيهِ ، وَهُوَ كِنَايَةٌ لَا اسْمٌ ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا بِمُبَادَرَتِهِ الِامْتِثَالَ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ .
فَلَمَّا اعْتَقَدَا الْوُجُوبَ ، وَتَهَيَّآ لِلْعَمَلِ ، هَذَا بِصُورَةِ الذَّابِحِ ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ ، أُعْطِيَ مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً عَنْ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَنَامِ ، يَقَعُ مَوْضِعَهُ بِرَسْمِ الْكِنَايَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمَوْعُودِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ لَهُ الْوَلَدُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } فَأَيْنَ الْأَمْرُ ؟ قُلْنَا : هُمَا كَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْوَالِدِ
إبْرَاهِيمَ ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْوَلَدِ
إسْمَاعِيلَ . فَأَمَّا كَلِمَةُ
إبْرَاهِيمَ فَهِيَ قَوْلُهُ أَذْبَحُك ، وَهُوَ خَبَرٌ لَا أَمْرٌ ، وَأَمَّا كَلِمَةُ
إسْمَاعِيلَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } وَهُوَ أَمْرٌ ، وَقَوْلُ
إبْرَاهِيمَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَإِنْ كَانَتْ [ صِيغَتُهُ ] صِيغَةَ الْخَبَرِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً ; لِأَنَّ لَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ خَبَرٍ وَاقِعٍ لَمَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُنْتَظَرُ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ضَرُورَةً . فَقَالَ
إسْمَاعِيلُ لِأَبِيهِ
إبْرَاهِيمَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ; فَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالِانْقِيَادِ إلَى مَعْنَى خَبَرِ أَبِيهِ ، وَهُوَ الْأَمْرُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا } حِينَ تَيَسَّرَا لِلْعَمَلِ ، وَأَقْبَلَا عَلَى الْفِعْلِ ; فَكَانَ صَدَقَهَا ذِبْحُهَا مَكَانَهَا ، وَهُوَ الْفِدَاءُ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فِي الْمَعْنَى ضَرُورَةً ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ
إبْرَاهِيمَ امْتِثَالًا ، وَمِنْ
إسْمَاعِيلَ انْقِيَادًا ، وَوُضِّحَتْ الْمَعَانِي بِحَقِيقَتِهَا ، وَجَرَتْ الْأَلْفَاظُ عَلَى نِصَابِهَا لِصَوَابِهَا ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ يَقْلِبُ الْجِلْدَ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ .