[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة بني إسرائيل
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28988_34026سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
الآية ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، فإنا نبين ذلك .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة ، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده ، زاعما أنه في المنام لا اليقظة ; لأن
nindex.php?page=treesubj&link=31786رؤيا الأنبياء وحي .
وزعم بعضهم : أن الإسراء بالجسد ، والمعراج بالروح دون الجسد ، ولكن
nindex.php?page=treesubj&link=34026ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، لأنه قال
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1بعبده والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، ولأنه قال : سبحان والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه . ويؤيده قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17ما زاغ البصر وما طغى [ 53 \ 17 ] لأن البصر من آلات الذات لا الروح ، وقوله هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1لنريه من آياتنا .
[ 17 \ 1 ]
ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ، [ 17 \ 60 ] فإنها رؤيا عين يقظة ، لا رؤيا منام ، كما صح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره .
ومن الأدلة الواضحة على ذلك : أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة ، ولا سببا لتكذيب
قريش ; لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار ; لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح . فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب .
فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة ، فصار فتنة لهم . وكون الشجرة المعلونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم : " أن الله لما أنزل قوله :
[ ص: 4 ] nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=64إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالوا [ 37 \ 64 ] ، ظهر كذبه ; لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة ، فكيف ينبت في أصل النار ! " كما تقدم في " البقرة " .
ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1لنريه من آياتنا الآية [ 17 \ 1 ] ، وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
[ 53 \ 17 - 18 ] وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام مردود . بل التحقيق : أن
nindex.php?page=treesubj&link=24395لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضا . ومنه قول
الراعي وهو عربي قح :
فكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر نفسا كان قبل يلومها
فإنه يعني رؤية صائد بعينه . ومنه أيضا قول
أبي الطيب :
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
قاله صاحب اللسان .
وزعم بعض أهل العلم : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29801المراد بالرؤيا في قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وما جعلنا الرؤيا التي أريناك [ 17 \ 60 ] رؤيا منام ، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله الآية ، [ 48 \ 27 ] والحق الأول .
وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه ; لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف ، وعلى كل حال فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007942 " أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع " .
وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=34026الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه يقظة لا مناما ، كما دلت على ذلك أيضا الآيات التي ذكرنا .
وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة ، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين . وما ثبت في الصحيحين من طريق
شريك عن
أنس رضي الله عنه : أن الإسراء
[ ص: 5 ] المذكور وقع مناما لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة ، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة . لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوما ، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية . كما رأى في النوم أنهم دخلوا
المسجد الحرام ، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح ، فدخلوا
المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة لا مناما ، تصديقا لتلك الرؤيا . كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الآية [ 48 \ 27 ] ، ويؤيد ذلك حديث
عائشة الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007943 " فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " مع أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن
nindex.php?page=showalam&ids=16100شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن
أنس ، وزاد فيها ونقص ، وقدم وأخر . ورواها عن
أنس غيره من الحفاظ على الصواب ، فلم يذكروا المنام الذي ذكره
شريك المذكور . وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير
ابن كثير رحمه الله تعالى ، فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعا حسنا بإتقان . ثم قال رحمه الله : " والحق أنه عليه الصلاة والسلام أسري به يقظة لا مناما من
مكة إلى
بيت المقدس راكبا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها ، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مر
بموسى الكليم في السادسة ،
وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام - أي : أقلام القدر - بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى ، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ، ورأى هناك
جبريل على صورته وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ، ورأى البيت المعمور ،
وإبراهيم الخليل باني
الكعبة الأرضية مسندا ظهره إليه . لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، ورأى الجنة والنار . وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ; رحمة منه ولطفا بعباده .
وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها . ثم هبط إلى
بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء . فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ . ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء ، والذي تظاهرت به الروايات أنه
ببيت المقدس ، ولكن
[ ص: 6 ] في بعضها أنه كان أول دخوله إليه ، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه ، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم
جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم ، وهذا هو اللائق . لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى .
ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة
جبريل عليه السلام في ذلك . ثم خرج من
بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى
مكة بغلس . والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى بلفظه من تفسير
الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى .
وقال
القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، فهو متواتر بهذا الوجه . وذكر
النقاش ممن رواه عشرين صحابيا ، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما ، وبسط قصة الإسراء ، تركناه لشهرته عند العامة ، وتواتره في الأحاديث .
وذكر
الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين ، قال في أولاهما : " فائدة حسنة جليلة . وروى الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم الأصبهاني في كتاب ( دلائل النبوة ) من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15472محمد بن عمر الواقدي : حدثني
مالك بن أبي الرجال ، عن
عمر بن عبد الله ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي قال :
" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=202دحية بن خليفة إلى قيصر . . . " . فذكر وروده عليه وقدومه إليه ، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل
هرقل ، ثم استدعى من
بالشام من التجار فجيء
nindex.php?page=showalam&ids=12026بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه .
وجعل
أبو سفيان يجتهد أن يحقر أمره ويصغر عنده ، قال في هذا السياق عن
أبي سفيان : " والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه به من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء . قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : فقلت : أيها الملك ، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب . قال : وما هو ؟ قال : قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا
أرض الحرم في ليلة ، فجاء مسجدكم هذا مسجد
إيلياء ، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح . قال : وبطريق
إيلياء عند رأس
قيصر ، فقال بطريق
إيلياء : قد علمت تلك الليلة .
قال : فنظر إليه
قيصر . وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد . فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد
[ ص: 7 ] غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا ، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا ، فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه ، حتى نصبح فننظر من أين أتى . قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين . فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب . وإذا فيه أثر مربط الدابة . قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا اهـ .
ثم قال في الأخرى : " فائدة : قال
الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه ( التنوير في مولد السراج المنير ) وقد ذكر حديث الإسراء من طريق
أنس ، وتكلم عليه فأجاد وأفاد ، ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ،
وعلي ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ،
وأبي ذر ،
ومالك بن صعصعة ،
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة ، وأبي سعيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=75وشداد بن أوس ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ،
وعبد الرحمن بن قرط ،
وأبي حبة ،
وأبي ليلى الأنصاريين ،
وعبد الله بن عمرو ،
وجابر ،
وحذيفة ،
وبريدة ،
وأبي أيوب ،
وأبي أمامة ،
nindex.php?page=showalam&ids=24وسمرة بن جندب ،
وأبي الحمراء ،
nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب الرومي ،
nindex.php?page=showalam&ids=94وأم هانئ ،
وعائشة ،
nindex.php?page=showalam&ids=64وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين . منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة "
nindex.php?page=treesubj&link=34026فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون ;
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون اهـ من
ابن كثير بلفظه .
وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في سبحان [ 17 \ 1 ] أنه مفعول مطلق ، منصوب بفعل محذوف : أي أسبح الله سبحانا ; أي تسبيحا . والتسبيح : الإبعاد عن السوء . ومعناه في الشرع : التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله ، كما قدمنا . وزعم بعض أهل العلم : أن لفظة سبحان علم للتنزيه . وعليه فهو علم جنس لمعنى التنزيه على حد قول
ابن مالك في الخلاصة ، مشيرا إلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات : ومثله برة للمبرة كذا فجار علم للفجرة
وعلى أنه علم : فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون . والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أنه غير علم ، وأن معنى سبحان تنزيها لله عن كل ما لا يليق به . ولفظة سبحان من الكلمات الملازمة للإضافة ، وورودها غير مضافة قليل . كقول
[ ص: 8 ] الأعشى :
فقلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
ومن الأدلة على أنه غير علم ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها ، وقد سمعت لفظة سبحان غير مضافة مع التنوين والتعريف . فمثاله مع التنوين قوله : سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد
ومثاله معرفا قول الراجز :
سبحانك اللهم ذا السبحان
والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29532مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها . إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم ، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق ، ورأى من آيات ربه الكبرى . وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق ، ولله المثل الأعلى :
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها ليلا في هذه الآية الكريمة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في [ الكشاف ] : أراد بقوله : ليلا [ 17 \ 1 ] بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة . وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة
عبد الله وحذيفة : من الليل ; أي بعض الليل . كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=79ومن الليل فتهجد به نافلة [ 17 \ 79 ] يعني بالقيام في بعض الليل اه . واعترض بعض أهل العلم هذا .
وذكر بعضهم : أن التنكير في قوله : ليلا للتعظيم ; أي : ليلا أي ليل ، دنا فيه المحب إلى المحبوب ، وقيل فيه غير ذلك . وقد قدمنا : أن أسرى وسرى لغتان . كسقى وأسقى ، وقد جمعهما قول
حسان رضي الله عنه :
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح التاء من " تسري " والباء في اللغتين للتعدية ، كالباء في
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17ذهب الله بنورهم [ ص: 9 ] [ 2 \ 17 ] وقد تقدمت شواهد هذا في " سورة هود " ) .
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28988_34026سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى .
الْآيَةَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ : أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَيَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ .
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ بِرُوحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ جَسَدِهِ ، زَاعِمًا أَنَّهُ فِي الْمَنَامِ لَا الْيَقَظَةِ ; لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31786رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ .
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ : أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِالْجَسَدِ ، وَالْمِعْرَاجَ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ ، وَلَكِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34026ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا ، لِأَنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1بِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ : سُبْحَانَ وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ ، فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ . وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [ 53 \ 17 ] لِأَنَّ الْبَصَرَ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .
[ 17 \ 1 ]
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ، [ 17 \ 60 ] فَإِنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ ، لَا رُؤْيَا مَنَامٍ ، كَمَا صَحَّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةً ، وَلَا سَبَبًا لِتَكْذِيبِ
قُرَيْشٍ ; لَأَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَيْسَتْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ الْمَنَامَ قَدْ يُرَى فِيهِ مَا لَا يَصِحُّ . فَالَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ .
فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لَا مَحَالَةَ ، فَصَارَ فِتْنَةً لَهُمْ . وَكَوْنُ الشَّجَرَةِ الْمُعَلْوَنَةِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِتْنَةً لَهُمْ : " أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ :
[ ص: 4 ] nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=64إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قَالُوا [ 37 \ 64 ] ، ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ بِالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ ، فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ ! " كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَةِ " .
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=1لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا الْآيَةَ [ 17 \ 1 ] ، وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى .
[ 53 \ 17 - 18 ] وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَا لَا تُطْلَقُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَةً إِلَّا عَلَى رُؤْيَا الْمَنَامِ مَرْدُودٌ . بَلِ التَّحْقِيقُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24395لَفْظَ الرُّؤْيَا يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَقَظَةً أَيْضًا . وَمِنْهُ قَوْلُ
الرَّاعِي وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ :
فَكَبَّرَ لِلرُّؤْيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ وَبَشَّرَ نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا
فَإِنَّهُ يَعْنِي رُؤْيَةَ صَائِدٍ بِعَيْنِهِ . وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ
أَبِي الطَّيِّبِ :
وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ
قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ .
وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29801الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [ 17 \ 60 ] رُؤْيَا مَنَامٍ ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ ، [ 48 \ 27 ] وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ .
وَرُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ ; لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الرُّكُوبُ عَلَى الدَّوَابِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007942 " أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَأَنَّهُ عُرِجَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ " .
وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34026الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كِلَيْهِمَا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ . وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ
شَرِيكٍ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ الْإِسْرَاءَ
[ ص: 5 ] الْمَذْكُورَ وَقَعَ مَنَامًا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْإِسْرَاءَ الْمَذْكُورَ نَوْمًا ، ثُمَّ جَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ فَأُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ . كَمَا رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَجَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ ، فَدَخَلُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ سَبْعٍ يَقَظَةً لَا مَنَامًا ، تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ الْآيَةَ [ 48 \ 27 ] ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ
عَائِشَةَ الصَّحِيحُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007943 " فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ " مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا : إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16100شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ
أَنَسٍ ، وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ . وَرَوَاهَا عَنْ
أَنَسٍ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَلَى الصَّوَابِ ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَنَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ
شَرِيكٌ الْمَذْكُورُ . وَانْظُرْ رِوَايَاتِهِمْ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا فِي تَفْسِيرِ
ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَدْ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا حَسَنًا بِإِتْقَانٍ . ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ
مَكَّةَ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يَرْقَى فِيهَا ، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا ، وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ ، حَتَّى مَرَّ
بِمُوسَى الْكَلِيمِ فِي السَّادِسَةِ ،
وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي السَّابِعَةِ ، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ - أَيْ : أَقْلَامِ الْقَدَرِ - بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مَنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ ، وَرَأَى هُنَاكَ
جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ ، وَرَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ ،
وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بَانِيَ
الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ . لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ . وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ ; رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ .
وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا . ثُمَّ هَبَطَ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ . فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمَئِذٍ . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَلَكِنْ
[ ص: 6 ] فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ
جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ . لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ اجْتَمَعَ بِهِ هُوَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ . ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى
مَكَّةَ بِغَلَسٍ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ تَفْسِيرِ
الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ثَبَتَ الْإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الْحَدِيثِ ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ بِهَذَا الْوَجْهِ . وَذَكَرَ
النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكَرُ بَعْضَ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَبَسْطُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ ، تَرَكْنَاهُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ ، وَتَوَاتُرِهِ فِي الْأَحَادِيثِ .
وَذَكَرَ
الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَائِدَتَيْنِ ، قَالَ فِي أُولَاهُمَا : " فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جَلِيلَةٌ . وَرَوَى الْحَافِظَ
nindex.php?page=showalam&ids=12181أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ ( دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ) مِنْ طَرِيقِ
nindex.php?page=showalam&ids=15472مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ : حَدَّثَنِي
مَالِكُ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=14980مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ :
" بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ nindex.php?page=showalam&ids=202دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ إِلَى قَيْصَرَ . . . " . فَذَكَرَ وُرُودَهُ عَلَيْهِ وَقُدُومَهُ إِلَيْهِ ، وَفِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى وُفُورِ عَقْلِ
هِرَقْلَ ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَنْ
بِالشَّامِ مِنَ التُّجَّارِ فَجِيءَ
nindex.php?page=showalam&ids=12026بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي رَوَاهَا
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
وَجَعَلَ
أَبُو سُفْيَانَ يَجْتَهِدُ أَنَّ يُحَقِّرَ أَمْرَهُ وَيُصَغِّرَ عِنْدَهُ ، قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ عَنْ
أَبِي سُفْيَانَ : " وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ قَوْلًا أُسْقِطُهُ بِهِ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَكْذِبَ عِنْدَهُ كِذْبَةً يَأْخُذُهَا عَلَيَّ وَلَا يُصَدِّقُنِي فِي شَيْءٍ . قَالَ : حَتَّى ذَكَرْتُ قَوْلَهُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، أَلَا أُخْبِرُكَ خَبَرًا تَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ . قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : قُلْتُ إِنَّهُ يَزْعُمُ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِنَا
أَرْضِ الْحَرَمِ فِي لَيْلَةٍ ، فَجَاءَ مَسْجِدَكُمْ هَذَا مَسْجِدَ
إِيلِيَاءَ ، وَرَجَعَ إِلَيْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الصَّبَاحِ . قَالَ : وَبِطْرِيقُ
إِيلِيَاءَ عِنْدَ رَأْسِ
قَيْصَرَ ، فَقَالَ بِطْرِيقُ
إِيلِيَاءَ : قَدْ عَلِمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ .
قَالَ : فَنَظَرَ إِلَيْهِ
قَيْصَرُ . وَقَالَ : وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : إِنِّي كُنْتُ لَا أَنَامُ لَيْلَةً حَتَّى أُغْلِقَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ . فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَغْلَقْتُ الْأَبْوَابَ كُلَّهَا غَيْرَ بَابٍ وَاحِدٍ
[ ص: 7 ] غَلَبَنِي ، فَاسْتَعَنْتُ عَلَيْهِ بِعُمَّالِي وَمَنْ يَحْضُرُنِي كُلُّهُمْ فَغَلَبَنَا ، فَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُحَرِّكَهُ كَأَنَّمَا نُزَاوِلُ بِهِ جَبَلًا ، فَدَعَوْتُ إِلَيْهِ النَّجَاجِرَةَ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الْبَابَ سَقَطَ عَلَيْهِ النِّجَافُ وَالْبُنْيَانُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَرِّكَهُ ، حَتَّى نُصْبِحَ فَنَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ أَتَى . قَالَ : فَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُ الْبَابَيْنِ مَفْتُوحَيْنِ . فَلَمَّا أَصْبَحَتْ غَدَوْتُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا الْمَجَرُّ الَّذِي فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ مَثْقُوبٌ . وَإِذَا فِيهِ أَثَرُ مَرْبِطِ الدَّابَّةِ . قَالَ : فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي : مَا حُبِسَ هَذَا الْبَابُ اللَّيْلَةَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ وَقَدْ صَلَّى اللَّيْلَةَ فِي مَسْجِدِنَا اهـ .
ثُمَّ قَالَ فِي الْأُخْرَى : " فَائِدَةٌ : قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو الْخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ ( التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ ) وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ مِنْ طَرِيقِ
أَنَسٍ ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ،
وَعَلِيٍّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ ،
وَأَبِي ذَرٍّ ،
وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=3وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنِ عَبَّاسٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=75وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ ،
وَأَبِي حَبَّةَ ،
وَأَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيَّيْنِ ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ،
وَجَابِرٍ ،
وَحُذَيْفَةَ ،
وَبُرَيْدَةَ ،
وَأَبِي أَيُّوبَ ،
وَأَبِي أُمَامَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=24وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ،
وَأَبِي الْحَمْرَاءِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=52وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=94وَأُمِّ هَانِئٍ ،
وَعَائِشَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=64وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ "
nindex.php?page=treesubj&link=34026فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُلْحِدُونَ ;
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اهـ مِنِ
ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَحْسَنَ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي سُبْحَانَ [ 17 \ 1 ] أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ : أَيْ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا ; أَيْ تَسْبِيحًا . وَالتَّسْبِيحُ : الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ . وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ : التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ ، كَمَا قَدَّمْنَا . وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ لَفْظَةَ سُبْحَانَ عَلَمٌ لِلتَّنْزِيهِ . وَعَلَيْهِ فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ لِمَعْنَى التَّنْزِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ
ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ يَكُونُ لِلْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ لِلذَّاتِ : وَمِثْلُهُ بَرَّةُ لِلْمَبَرَّةِ كَذَا فُجَّارِ عَلَمٌ لِلْفَجَرَةِ
وَعَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ : فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ . وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ : أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ ، وَأَنَّ مَعْنَى سُبْحَانَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ . وَلَفْظَةُ سُبْحَانَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ ، وَوُرُودُهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ قَلِيلٌ . كَقَوْلِ
[ ص: 8 ] الْأَعْشَى :
فَقُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ مُلَازَمَتُهُ لِلْإِضَافَةِ وَالْأَعْلَامُ تَقِلُّ إِضَافَتُهَا ، وَقَدْ سَمِعْتُ لَفْظَةَ سُبْحَانَ غَيْرَ مُضَافَةٍ مَعَ التَّنْوِينِ وَالتَّعْرِيفِ . فَمِثَالُهُ مَعَ التَّنْوِينِ قَوْلُهُ : سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
وَمِثَالُهُ مُعَرَّفًا قَوْلُ الرَّاجِزِ :
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السُّبْحَانِ
وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29532مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا . إِذْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَصْفٌ أَعْظَمُ مِنْهُ لَعَبَّرَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي اخْتَرَقَ الْعَبْدُ فِيهِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ ، وَرَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي مَحْبُوبٍ مَخْلُوقٍ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى :
يَا قَوْمُ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّكْتَةِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي نَكَّرَ مِنْ أَجْلِهَا لَيْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي [ الْكَشَّافِ ] : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : لَيْلًا [ 17 \ 1 ] بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ ، وَأَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ
عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ : مِنَ اللَّيْلِ ; أَيْ بَعْضُ اللَّيْلِ . كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=79وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً [ 17 \ 79 ] يَعْنِي بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ اه . وَاعْتَرَضَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ : لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ : لَيْلًا أَيَّ لَيْلٍ ، دَنَا فِيهِ الْمُحِبُّ إِلَى الْمَحْبُوبِ ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا : أَنْ أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ . كَسَقَى وَأَسْقَى ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ
حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
حَيِّ النَّضِيرَةَ رَبَّةَ الْخِدْرِ أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي
بِفَتْحِ التَّاءِ مَنْ " تَسْرِي " وَالْبَاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ ، كَالْبَاءِ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [ ص: 9 ] [ 2 \ 17 ] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُ هَذَا فِي " سُورَةِ هُودٍ " ) .