(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159nindex.php?page=treesubj&link=28973_27962_32428إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=161إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون )
[ ص: 40 ] كان علماء
أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة ، ويكتمون بعضه بتحريف الكلم عن مواضعه بالترجمة أو النطق أو حمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم ( كما فعلوا بلفظ الفارقليط ) ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات التي سجلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب )
( قال شيخنا ) : هذه الآية عود إلى أصل السياق وهو
nindex.php?page=treesubj&link=29435معاداة النبي ومعاندته من الكفار عامة ومن اليهود خاصة ، والكلام في القبلة إنما كان في معرض جحودهم وعدائهم أيضا ، وجاء فيه أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون ، ولم يذكر هناك وعيد هؤلاء الكاتمين ; لأن ذكر الكتمان ورد مورد الاحتجاج عليهم ، وتسلية للنبي والمؤمنين على إيذائهم ، ثم عاد هنا فذكره ، وهو عبارة عن إنكارهم أخبار أنبيائهم عنه وبشارتهم به - صلى الله عليه وسلم - وجعلهم ذلك حجة سلبية على إنكار نبوته ; إذ كانوا يقولون : إن الأنبياء يبشر بعضهم ببعض ولم يبشروا بأن سيبعث نبي من العرب أبناء
إسماعيل ، ولم يجئ بيان في كتبهم عن دينه وكتابه . فالله تعالى يقول : إنهم يكتمون ما أنزل الله في شأن
محمد - صلى الله عليه وسلم - من بعد ما بينه لهم في الكتاب ، وهو اسم جنس يشمل جميع كتب الأنبياء عندهم .
وقد اختلف الناس في صفة هذا الكتمان ، فقال بعضهم : إنهم كانوا يحذفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم ، وهو غير معقول ; إذ لا يمكن أن يتواطأ
أهل الكتاب على ذلك في جميع الأقطار ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب لظهر اختلاف كتبهم مع كتب إخوانهم في
الشام وأوربا مثلا ، ويذهب آخرون إلى أن الإنكار كان بالتحريف والتأويل وحمل الأوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوته على غيره حتى إذا سئلوا : هل لهذا النبي ذكر
[ ص: 41 ] في كتبكم ؟ قالوا : لا . على أن في كتبهم أوصافا لا تنطبق إلا على نبي في بلاد العرب وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشعيا فإنه لا يقبل التأويل إلا بغاية التمحل والتعسف . وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوة
المسيح فإنهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا أنها لغيره ، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير .
وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأويل بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والإرشاد بضروب التأويل أيضا حتى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه ، وذكر جزاءهم فقال : ( أولئك ) أي : الذين كتموا البينات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق ، أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحال والاستقبال (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) أما لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وأما لعن اللاعنين فليس معناه أنه ينبغي أن يطلب لعنهم ، وإنما معناه أنهم بفعلتهم هذه موضع لعنة اللاعنين الآتي ذكرهم في الآية الآتية (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا ) عن الكتمان ( وأصلحوا ) عملهم بالأخذ بتلك البينات عن النبي ودينه والهدى الذي جاء به ( وبينوا ) ما كانوا يكتمونه أو بينوا إصلاحهم ، وجاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس ، فإن بعض الناس يعرف الحق ويعمل به ولكنه يكتم عمله ويسره موافقة للناس فيما هم فيه لئلا يعيبوه ، وهذا ضرب من
nindex.php?page=treesubj&link=18703_18692_18710الشرك الخفي وإيثار الخلق على الحق ; لذلك اشترط في توبتهم إظهار إصلاحهم والمجاهرة بأعمالهم ; ليكونوا حجة على المنكرين ، وقدوة صالحة لضعفاء التائبين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160فأولئك أتوب عليهم ) أي : أرجع وأعود عليهم بالرحمة والرأفة بعد الحرمان المعبر عنه باللعنة .
قال الأستاذ : وهذا من ألطف أنواع التأديب الإلهي فإنه لم يذكر أنه يقبل توبتهم كما هو الواقع بل أسند إلى ذاته العلية فعل التوبة الذي أسنده إليهم ، وزاد على ذلك من تأنيسهم وترغيبهم أن قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160وأنا التواب الرحيم ) يصف نفسه سبحانه بكثرة الرجوع والتوبة ، للإيذان بالتكرار ، كلما أذنب العبد وتاب ، حتى لا ييئس من رحمة ربه إذا هو عاد إلى ذنبه . فأي ترغيب في ذلك أبلغ من هذا وأشد تأثيرا منه لمن يشعر ويعقل ؟
ثم إن العبرة في الآية هي أن حكمها عام وإن كان سببها خاصا ، فكل من يكتم آيات الله وهدايته عن الناس فهو مستحق لهذه اللعنة . ولما كان هذا الوعيد وأشباهه حجة على الذين لبسوا لباس الدين من المسلمين وانتحلوا الرياسة لأنفسهم بعلمه ، حاولوا التفصي منه فقال بعضهم : إن الكتمان لا يتحقق إلا
nindex.php?page=treesubj&link=27962إذا سئل العالم عن حكم الله تعالى فكتمه ، وأخذوا من هذا التأويل قاعدة هي أن العلماء لا يجب عليهم نشر ما أنزل الله تعالى ودعوة الناس إليه وبيانه لهم ، وإنما يجب على العالم أن يجيب إذا سئل عما يعلمه ، وزاد بعضهم إذا لم يكن هناك عالم غيره ، وإلا كان له أن يحيل على غيره . وهذه القاعدة مسلمة عند أكثر المنتسبين إلى العلم
[ ص: 42 ] اليوم وقبل اليوم بقرون ، وقد ردها أهل العلم الصحيح فقالوا : إن القرآن الكريم لم يكتف بالوعيد على الكتمان ، بل أمر ببيان هداه للناس ، وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأوعد من يترك هذه الفريضة ، وذكر لهم العبر فيما حكاه عن الذين قصروا فيها من قبل كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ( 3 : 187 ) إلخ ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) - إلى قوله في المتفرقين عن الحق - (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=105وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( 3 : 104 ، 105 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قوله في عصيانهم الذي هو سبب لعنتهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=79كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) ( 5 : 78 ، 79 ) إلخ . فأخبر تعالى أنه
nindex.php?page=treesubj&link=24661لعن الأمة كلها لتركهم التناهي عن المنكر . نعم ; إن هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولكن لا يكفي في كل قطر واحد كما قال بعض الفقهاء ; بل لا بد أن تقوم به أمة من الناس ; كما قال الله تعالى لتكون لهم قوة ولنهيهم وأمرهم تأثير ، وسيأتي تفصيل هذا في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ) ( 3 : 104 ) إلخ . ( أقول ) وما ورد من تدافع علماء السلف في الفتوى فإنما هو في الوقائع العملية الاجتهادية التي تعرض للناس ، لا في الدعوة إلى مقاصد الدين الثابتة بالنصوص وسياجها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وذهب بعض المئولين مذهبا آخر هو أن هذا الوعيد مخصوص بالكافرين ، فترك المؤمن فريضة من الفرائض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستحق به وعيد الكافرين فيلحقه بالكفار . وهذا كلام قد ألفته الأسماع ، وأخذ بالتسليم واستعمل في الإفحام والإقناع ، فإن الذي يسمعه على علاته يرى نفسه ملزما برمي تاركي الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر بالكفر ، وذلك مخالف للقواعد التي وضعوها للعقائد ، فلا يستطيع أن يقول ذلك ، ولكنه إذا عرض على الله في الآخرة وعلى كتابه في الدنيا يظهر أنه لا قيمة له ، وإذا بحثت فيه يظهر لك أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه ، ودين الله يداس جهارا بين يديه ، ويرى البدع تمحو السنن ، والضلال يغشى الهدى ، ولا ينبض له عرق ولا ينفعل له وجدان ، ولا يندفع لنصرته بيد ولا بلسان ، هو هذا الذي إذا قيل له إن فلانا يريد أن يصادرك في شيء من رزقك أو يحاول أن يتقدم عليك عند الأمراء والحكام ، تجيش في صدره المراجل ويضطرب باله ويتألم قلبه ، وربما تجافى جنبه عن مضجعه ، وهجر الرقاد عينيه ، ثم إنه يجد ويجتهد ويعمل الفكر في استنباط الحيل وإحكام التدبير لمدافعة ذلك الخصم أو الإيقاع به ، فهل يكون لدين الله تعالى في نفس مثل هذا قيمته ؟ وهل يصدق أن الإيمان قد تمكن من قلبه ، والبرهان عليه قد حكم عقله ، والإذعان إليه قد ثلج صدره ؟
[ ص: 43 ] يسهل على من نظر في بعض كتب العقائد التي بنيت على أساس الجدل أن يجادل نفسه ويغشها بما يسليها به من الأماني التي يسميها إيمانا ، ولكنه لو حاسبها فناقشها الحساب ورجع إلى عقله ووجدانه لعلم أنه اتخذ إلهه هواه ، وأنه يعبد شهوته من دون الله ، وأن صفات المؤمنين التي سردها الكتاب سردا ، وأحصاها عدا - وأظهرها بذل المال والنفس في سبيل الله ونشر الدعوة وتأييد الحق - كلها بريئة منه ، وأن صفات المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كلها راسخة فيه . فليحاسب امرؤ نفسه قبل أن يحاسب ، وليتب إلى الله قبل حلول الأجل لعله يتوب عليه وهو التواب الرحيم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=161nindex.php?page=treesubj&link=32428_28973إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) تقدم في الآية السابقة استحقاق اللعن للكافرين بكتمان الحق ، واستثنى منهم الذين يتوبون ، ثم ذكر في هذه الآية وما بعدها بيان أولئك اللاعنين وشرط استحقاق اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الهوان ، وهو أن يموتوا على كفرهم فأولئك تسجل عليهم اللعنة ويخلدون فيها لا تنفعهم معها شفاعة ولا وسيلة . قال بعض المفسرين : إن المراد بالناس هنا المؤمنون كأن غيرهم ليسوا من الناس ، وحجتهم أن حمله على ظاهره وهو العموم لا يصدق على أهل دين أولئك الكفار ومذاهبهم فإنهم لا يلعنونهم .
قال الأستاذ الإمام : وهو احتجاج ضعيف ، فإن أهل مذاهبهم إذا كانوا لا يلعنون الأشخاص الذين يعرفونهم منهم ، فهم إذا شرحت لهم أحوالهم في كفرهم وإصرارهم على غيهم ، وإعراضهم عن سعادتهم ، وحال الداعي إلى الحق معهم ، وذكر لهم كيف يشاقونه ويعاندونه ، فهم يلعنونهم أو يرونهم محلا للعنة ومستحقين لأشد العقوبة ، فإن المراد أن هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم إلى الموت هم أهل للعنة وموضوع لها من الله ومن عالم الملائكة الروحانيين ، ومن الناس أجمعين ، فإن الكافر من الناس إذا ذكر له الكفر وأهله وعنادهم واستكبارهم عن الحق لعنهم ، ولكنه قد يخطئ في حمل صفات الكفر على أصحابها .
والنكتة في ذكر لعنة الملائكة والناس مع أن لعنة الله وحده كافية في خزيهم ونكالهم ، هي بيان أن جميع من يعلم حالهم من العوالم العلوية والسفلية يراهم محلا للعنة الله ومقته ، فلا يرجى أن يرأف بهم رائف ، ولا أن يشفع لهم شافع ; لأن اللعنة صبت عليهم باستحقاق عند جميع من يعقل ويعلم ، ومن حرمه سوء سعيه من رحمة الرءوف الرحيم فماذا يرجو من سواه ؟
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) أي : ماكثين في هذه اللعنة وما تقتضيه من شدة العذاب ، لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولا هم ينظرون ; أي : يمهلون من ( الإنظار ) ليتوبوا ويصلحوا ، أو لا ينظر إليهم نظر مغفرة ورحمة ، قالوا
[ ص: 44 ] إن الخلود في اللعنة عبارة عن الخلود في أثرها وهو النار بقرينة (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162لا يخفف عنهم العذاب ) ولا أذكر عن الأستاذ الإمام في هذا شيئا ، ولكن الكلام يصح على ظاهره وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=19056اللعن بمعنى الطرد ، فيصح أن يكون الخلود فيه عبارة عن دوامه هو ; أي : هم مطردون من رحمة الله تعالى طردا دائما لا يرجى لهم أن يسلموا منه ; لأن الكفر الذي استحقوه به هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح والجناية على الحق ، وتدسية النفس ، فمتى مات انقطع عمله وبطل كسبه ، فتعذر عليه أن يجلي تلك الغمة ، وينير هاتيك الظلمة ، وحرم من الرجوع إلى الحق ، ومن تزكية النفس ، فكأن خلوده في هذه اللعنة قد نشأ عن وصف لازم له ، فهو دائم بدوام ذاته التي هي علته ، وامتنع أيضا أن ينظر ويمهل فيه ، أو ينظر الله إليه ويزكيه ; لأنه لم يكن من شيء خارج عنه ، فهو الجاني والمعذب لنفسه ، فأي شيء يرجو من غيره ؟
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159nindex.php?page=treesubj&link=28973_27962_32428إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=161إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ )
[ ص: 40 ] كَانَ عُلَمَاءُ
أَهْلِ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ بَعْضَ مَا فِي كُتُبِهِمْ بِعَدَمِ ذِكْرِ نُصُوصِهِ لِلنَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَوِ السُّؤَالِ عَنْهُ كَالْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ وَكَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الَّذِي وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَيَكْتُمُونَ بَعْضَهُ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالتَّرْجَمَةِ أَوِ النُّطْقِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهِ بِالتَّأْوِيلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ ( كَمَا فَعَلُوا بِلَفْظِ الْفَارِقْلِيطَ ) فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمُ اللَّعْنَةَ الْعَامَّةَ الدَّائِمَةَ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ )
( قَالَ شَيْخُنَا ) : هَذِهِ الْآيَةُ عَوْدٌ إِلَى أَصْلِ السِّيَاقِ وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=29435مُعَادَاةُ النَّبِيِّ وَمُعَانَدَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَمِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِبْلَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ جُحُودِهِمْ وَعَدَائِهِمْ أَيْضًا ، وَجَاءَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ وَعِيدَ هَؤُلَاءِ الْكَاتِمِينَ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْكِتْمَانِ وَرَدَ مَوْرِدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ ، وَتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيذَائِهِمْ ، ثُمَّ عَادَ هُنَا فَذَكَرَهُ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْكَارِهِمْ أَخْبَارَ أَنْبِيَائِهِمْ عَنْهُ وَبِشَارَتِهِمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِهِمْ ذَلِكَ حُجَّةً سَلْبِيَّةً عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ ; إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُبَشِّرُوا بِأَنْ سَيُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ
إِسْمَاعِيلَ ، وَلَمْ يَجِئْ بَيَانٌ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ دِينِهِ وَكِتَابِهِ . فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ جَمِيعَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِفَةِ هَذَا الْكِتْمَانِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْذِفُونَ أَوْصَافَهُ وَالْبِشَارَاتِ فِيهِ مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَاطَأَ
أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَلَوْ فَعَلَهُ الَّذِينَ كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ لَظَهْرَ اخْتِلَافُ كُتُبِهُمْ مَعَ كُتُبِ إِخْوَانِهِمْ فِي
الشَّامِ وَأُورُبَّا مَثَلًا ، وَيَذْهَبُ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ كَانَ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَحَمْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى إِذَا سُئِلُوا : هَلْ لِهَذَا النَّبِيِّ ذِكْرٌ
[ ص: 41 ] فِي كُتُبِكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . عَلَى أَنَّ فِي كُتُبِهِمْ أَوْصَافًا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَظْهَرُهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَكِتَابِ أَشْعَيَا فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ إِلَّا بِغَايَةِ التَّمَحُّلِ وَالتَّعَسُّفِ . وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ
الْمَسِيحِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا انْطِبَاقَهَا عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ الْغَيْرَ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّأْوِيلِ بَلْ كَتَمُوا مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ أَيْضًا حَتَّى أَفْسَدُوا الدِّينَ وَانْحَرَفُوا بِالنَّاسِ عَنْ صِرَاطِهِ ، وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ فَقَالَ : ( أُولَئِكَ ) أَيِ : الَّذِينَ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَحُرِمُوا النُّورَ السَّابِقَ وَالنُّورَ اللَّاحِقَ ، أَوِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ هَذَا الْكِتْمَانُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) أَمَّا لَعْنُ اللَّهِ لَهُمْ فَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَمَّا لَعْنُ اللَّاعِنِينَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ لَعْنُهُمْ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِفِعْلَتِهِمْ هَذِهِ مَوْضِعُ لَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ الْآتِي ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ) عَنِ الْكِتْمَانِ ( وَأَصْلَحُوا ) عَمَلَهُمْ بِالْأَخْذِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ عَنِ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ ( وَبَيَّنُوا ) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ أَوْ بَيَّنُوا إِصْلَاحَهُمْ ، وَجَاهَرُوا بِعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَأَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُ عَمَلَهُ وَيُسِرُّهُ مُوَافَقَةً لِلنَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ لِئَلَّا يَعِيبُوهُ ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=18703_18692_18710الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَإِيثَارِ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ ; لِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ إِظْهَارَ إِصْلَاحِهِمْ وَالْمُجَاهَرَةَ بِأَعْمَالِهِمْ ; لِيَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِينَ ، وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِضُعَفَاءِ التَّائِبِينَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) أَيْ : أَرْجِعُ وَأَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بَعْدَ الْحِرْمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّعْنَةِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ : وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَلْ أَسْنَدَ إِلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِعْلَ التَّوْبَةِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيسِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ أَنْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) يَصِفُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَثْرَةِ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ ، لِلْإِيذَانِ بِالتَّكْرَارِ ، كُلَّمَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ وَتَابَ ، حَتَّى لَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِذَا هُوَ عَادَ إِلَى ذَنْبِهِ . فَأَيُّ تَرْغِيبٍ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ لِمَنْ يَشْعُرُ وَيَعْقِلُ ؟
ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا ، فَكُلُّ مَنْ يَكْتُمُ آيَاتِ اللَّهِ وَهِدَايَتَهُ عَنِ النَّاسِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ اللَّعْنَةِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ وَأَشْبَاهُهُ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ لَبِسُوا لِبَاسَ الدِّينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْتَحَلُوا الرِّيَاسَةَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِ ، حَاوَلُوا التَّفَصِّي مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا
nindex.php?page=treesubj&link=27962إِذَا سُئِلَ الْعَالِمُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَتَمَهُ ، وَأَخَذُوا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ قَاعِدَةً هِيَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَشْرُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَيَانُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا يَعْلَمُهُ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَالِمٌ غَيْرُهُ ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُحِيلَ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ
[ ص: 42 ] الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ ، وَقَدْ رَدَّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فَقَالُوا : إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكِتْمَانِ ، بَلْ أَمَرَ بِبَيَانِ هُدَاهُ لِلنَّاسِ ، وَبِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأَوْعَدَ مَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ ، وَذَكَرَ لَهُمُ الْعِبَرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الَّذِينَ قَصَّرُوا فِيهَا مِنْ قَبْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) ( 3 : 187 ) إِلَخْ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) - إِلَى قَوْلِهِ فِي الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْحَقِّ - (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=105وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( 3 : 104 ، 105 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) إِلَى قَوْلِهِ فِي عِصْيَانِهِمُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ لَعْنَتِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=79كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ) ( 5 : 78 ، 79 ) إِلَخْ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=24661لَعَنَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا لِتَرْكِهِمُ التَّنَاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ . نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِي فِي كُلِّ قُطْرٍ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ ; كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلِنَهْيِهِمْ وَأَمْرِهِمْ تَأْثِيرٌ ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) ( 3 : 104 ) إِلَخْ . ( أَقُولُ ) وَمَا وَرَدَ مِنْ تَدَافُعِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي الْفَتْوَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ ، لَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ وَسِيَاجِهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُئَوِّلِينَ مَذْهَبًا آخَرَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ ، فَتَرْكُ الْمُؤْمِنِ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ وَعِيدَ الْكَافِرِينَ فَيُلْحِقُهُ بِالْكُفَّارِ . وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ أَلِفَتْهُ الْأَسْمَاعُ ، وَأَخَذَ بِالتَّسْلِيمِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِفْحَامِ وَالْإِقْنَاعِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْمَعُهُ عَلَى عِلَّاتِهِ يَرَى نَفْسَهُ مُلْزَمًا بِرَمْيِ تَارِكِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْكُفْرِ ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلْعَقَائِدِ ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى كِتَابِهِ فِي الدُّنْيَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَإِذَا بَحَثْتَ فِيهِ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الَّذِي يَرَى حُرُمَاتِ اللَّهِ تُنْتَهَكُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ ، وَدِينَ اللَّهِ يُدَاسُ جِهَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيَرَى الْبِدَعَ تَمْحُو السُّنَنَ ، وَالضَّلَالَ يَغْشَى الْهُدَى ، وَلَا يَنْبِضُ لَهُ عِرْقٌ وَلَا يَنْفَعِلُ لَهُ وِجْدَانٌ ، وَلَا يَنْدَفِعُ لِنُصْرَتِهِ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ ، هُوَ هَذَا الَّذِي إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يُصَادِرَكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِزْقِكَ أَوْ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ ، تَجِيشُ فِي صَدْرِهِ الْمَرَاجِلُ وَيَضْطَرِبُ بَالُهُ وَيَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ ، وَرُبَّمَا تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ ، وَهَجَرَ الرُّقَادُ عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ وَيُعْمِلُ الْفِكْرَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ وَإِحْكَامِ التَّدْبِيرِ لِمُدَافَعَةِ ذَلِكَ الْخَصْمِ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِ ، فَهَلْ يَكُونُ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ مِثْلِ هَذَا قِيمَتُهُ ؟ وَهَلْ يُصَدَّقُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مَنْ قَلْبِهِ ، وَالْبُرْهَانَ عَلَيْهِ قَدْ حَكَمَ عَقْلَهُ ، وَالْإِذْعَانَ إِلَيْهِ قَدْ ثَلَّجَ صَدْرَهُ ؟
[ ص: 43 ] يَسْهُلُ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ الْجَدَلِ أَنْ يُجَادِلَ نَفْسَهُ وَيَغُشَّهَا بِمَا يُسَلِّيهَا بِهِ مِنَ الْأَمَانِي الَّتِي يُسَمِّيهَا إِيمَانًا ، وَلَكِنَّهُ لَوْ حَاسَبَهَا فَنَاقَشَهَا الْحِسَابَ وَرَجَعَ إِلَى عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ لَعَلِمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ، وَأَنَّهُ يَعْبُدُ شَهْوَتَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي سَرَدَهَا الْكِتَابُ سَرْدًا ، وَأَحْصَاهَا عَدًّا - وَأَظْهَرُهَا بَذْلُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ - كُلُّهَا بَرِيئَةٌ مِنْهُ ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ كُلَّهَا رَاسِخَةٌ فِيهِ . فَلْيُحَاسِبِ امْرُؤٌ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=161nindex.php?page=treesubj&link=32428_28973إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنِ لِلْكَافِرِينَ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الَّذِينَ يَتُوبُونَ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانَ أُولَئِكَ اللَّاعِنِينَ وَشَرْطَ اسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْخُلُودُ فِي دَارِ الْهَوَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَأُولَئِكَ تُسَجَّلُ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ وَيَخْلُدُونَ فِيهَا لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَهَا شَفَاعَةٌ وَلَا وَسِيلَةٌ . قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا مِنَ النَّاسِ ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الْعُمُومُ لَا يَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ دِينِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَمَذَاهِبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ أَهْلَ مَذَاهِبِهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يَلْعَنُونَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ مِنْهُمْ ، فَهُمْ إِذَا شُرِحَتْ لَهُمْ أَحْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى غَيِّهِمْ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَعَادَتِهِمْ ، وَحَالُ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مَعَهُمْ ، وَذُكِرَ لَهُمْ كَيْفَ يُشَاقُّونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ ، فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ أَوْ يَرَوْنَهُمْ مَحَلًّا لِلَّعْنَةِ وَمُسْتَحِقِّينَ لِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ هُمْ أَهْلٌ لِلَّعْنَةِ وَمَوْضُوعٌ لَهَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ ، وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مِنَ النَّاسِ إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْكُفْرُ وَأَهْلُهُ وَعِنَادُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْحَقِّ لَعَنَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي حَمْلِ صِفَاتِ الْكُفْرِ عَلَى أَصْحَابِهَا .
وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِ لَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مَعَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ كَافِيَةٌ فِي خِزْيِهِمْ وَنَكَالِهِمْ ، هِيَ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ يَرَاهُمْ مَحَلًّا لِلَعْنَةِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ ، فَلَا يُرْجَى أَنْ يَرْأَفَ بِهِمْ رَائِفٌ ، وَلَا أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شَافِعٌ ; لِأَنَّ اللَّعْنَةَ صُبَّتْ عَلَيْهِمْ بِاسْتِحْقَاقٍ عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ ، وَمَنْ حَرَمَهُ سُوءُ سَعْيِهِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ فَمَاذَا يَرْجُو مِنْ سِوَاهُ ؟
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أَيْ : مَاكِثِينَ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ ، لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ، وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ; أَيْ : يُمْهَلُونَ مِنَ ( الْإِنْظَارِ ) لِيَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا ، أَوْ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ نَظَرَ مَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ، قَالُوا
[ ص: 44 ] إِنَّ الْخُلُودَ فِي اللَّعْنَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلُودِ فِي أَثَرِهَا وَهُوَ النَّارُ بِقَرِينَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=162لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) وَلَا أَذْكُرُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا شَيْئًا ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ يَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19056اللَّعْنَ بِمَعْنَى الطَّرْدِ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخُلُودُ فِيهِ عِبَارَةً عَنْ دَوَامِهِ هُوَ ; أَيْ : هُمْ مَطْرُدُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْدًا دَائِمًا لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَسْلَمُوا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِهِ هُوَ غَايَةُ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِ الرُّوحِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْحَقِّ ، وَتَدْسِيَةِ النَّفْسِ ، فَمَتَى مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَبَطَلَ كَسْبُهُ ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَلِّيَ تِلْكَ الْغُمَّةَ ، وَيُنِيرَ هَاتِيكَ الظُّلْمَةَ ، وَحُرِمَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ ، وَمِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ، فَكَأَنَّ خُلُودَهُ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ قَدْ نَشَأَ عَنْ وَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ ، فَهُوَ دَائِمٌ بِدَوَامِ ذَاتِهِ الَّتِي هِيَ عِلَّتُهُ ، وَامْتَنَعَ أَيْضًا أَنْ يُنْظَرَ وَيُمْهَلَ فِيهِ ، أَوْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَيُزَكِّيَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ ، فَهُوَ الْجَانِي وَالْمُعَذِّبُ لِنَفْسِهِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْجُو مِنْ غَيْرِهِ ؟