nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286nindex.php?page=treesubj&link=28973_20716لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يحاسبها إلا على ما كلفها ، والتكليف : هو الإلزام بما فيه كلفة ، والوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر ، وقال بعضهم : هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها ، وهو ما دون مدى طاقته ، والمعنى أن شأنه - تعالى - وسنته في شرع الدين ألا يكلف عباده ما لا يطيقون . قال المفسرون : إن الآية تدل على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه . ولكن هذا لا يلتئم مع قولهم إن الكلام في شأنه وسنته - تعالى - في التكليف ، وستأتي تتمة هذا البحث قريبا . وإذا كان هذا التكليف لم يقع كما قالوا ، امتنع أن تكون الآية ناسخة لما قبلها ؛ لأنه لا يتضمن تكليف ما ليس في الوسع كما تقدم ، ولا لقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته [ 3 : 102 ] كما قيل .
وفي الجملة وجهان قيل : هي ابتداء خبر من الله - تعالى - كأنه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه
[ ص: 121 ] من التقصير وتيسير ما قد يشم من الآية السابقة من التعسير ، وقيل : إنها داخلة في قول المؤمنين ، فهم بعد سؤال الغفران قد أذنوا بأن يصغوا لله - تعالى - بهذا النوع من الرأفة بعباده ، والحكمة في سياستهم .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت قيل : إن الكسب والاكتساب واحد في اللغة نقل عن
الواحدي . وقيل : إن الاكتساب أخص ، واختلفوا في توجيهه ، واختار الأستاذ الإمام في الدرس ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وقال : إنه الصواب ، وهو أن الفرق بينهما كالفرق بين عمل واعتمل ، فكل من اكتسب واعتمل يفيد الاختراع والتكلف ، فالآية تشير أو تدل على أن فطرة الإنسان مجبولة على الخير ، وأنه يتعود الشر بالتكلف والتأسي . والمعنى : أن لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها عقاب ما اكتسبت من الشر ، وقد اختلف الناس في
nindex.php?page=treesubj&link=32406الإنسان هل هو خير بالطبع أو شرير بالطبع ؟ وإلى أي الأمرين أميل بفطرته مع صرف النظر عما يتفق له في تربيته ، المسألة مشهورة ، وقد قال الأستاذ الإمام : لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان ، والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس . وجماع ذلك كله أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث والإنسان يفعل الخير بطبعه ، وتكون فيه لذته ، ويميل إلى عبادة الله - تعالى - ؛ لأن شكر المنعم مغروس في الطبع ، ويظهر أثره في كل إنسان ، وأقله البشاشة والارتياح للمنعم ولا يحتاج الإنسان إلى تكلف في فعل الخير ؛ لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا ، وأما البشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا مقتضى فطرتها ، ومهما كان الإنسان شريرا فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت في نظر الناس وصاحبه مهين عندهم ، فإن الطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه ، وإذا رأى إعجاب الناس بكلام من يصف شيئا يزيد فيه ويبالغ كاذبا استحب الكذب وافتراه لينال الحظوة عند الناس ، ويحظى بإعجابهم وهو مع ذلك لا ينفك يشعر بقبحه حتى إذا نبز أمامه أحد بلقب الكاذب أو الكذاب أحس بمهانة نفسه وخزيها ، وهكذا شأن الإنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ويجد من أعماق سريرته هاتفا يقول له : لا تفعل ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر ، ومن النادر أن يصير الإنسان شرا محضا - يريد أنه قلما يألف أحد الشر وينطبع به حتى يكون طبعا له لا تشعر نفسه بقبحه عند الشروع فيه ولا في أثنائه ولا بعد الفراغ منه ، حتى إنه قال : إنه لا يوجد في المليون من الناس شرير واحد يفعل الشر وهو لا يشعر بأنه شر قبيح في نفسه ، والذين ذهبوا إلى أن الإنسان شرير بالطبع أرادوا من الطبع ما يرون عليه غالب الناس ولم يلاحظوا فيه معنى الغريزة ومناشئ العمل من الفطرة ، ذلك أن الإنسان ينشأ بين منازعات الكون وفواعل الطبيعة وأحيائها
[ ص: 122 ] ومغالبة أبناء جنسه على المنافع والمرافق ، وقد يدفعه هذا الجهاد إلى الأثرة وتوفير الخير لنفسه خاصة ويلجئه الظلم إلى الظلم فيأتيه متعلما إياه تعلما متكلفا له تكلفا ، وفي نفسه ذلك الهاتف الفطري يقول له : لا تفعل ، وهو النبراس الإلهي الذي لا ينطفئ ، فإذا رجع الإنسان إلى أصل فطرته لا يرى إلا الخير ، ولا يميل إلا إليه ، وإذا تأمل في الشر الذي يعرض له لم يخف عليه أنه ليس من أصل الفطرة ، وإنما هو من الطوارئ التي تعرض عليها لا سيما من ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم ، وأشد ما يضر الإنسان في ذلك نظره إلى حال غيره ; ولذلك أمرنا في الحديث أن ننظر في شئون الدنيا إلى من هو دوننا وهذا الأمر خاص بالأفراد بعضهم مع بعض ، فإن نظر الواحد إلى من دونه يجعله راضيا بما أوتيه من النعم بعيدا عن الحسد الذي هو منبع الشرور ، وأما الأمم فينبغي أن ننظر في حال من فوقنا منها لأجل مباراتها ومساماتها .
هذا ما قاله الإمام في هذه المسألة بإيضاح ، ومنه يعلم قوله - تعالى - في الخير : كسبت وفي الشر اكتسبت وكان - رحمه الله تعالى - يرى أن أحق ما يتعجب له من حال الإنسان كثرة عمل الشر وقلة عمل الخير ، ويعلل ذلك بأن عمل الخير سهل وعاقبته حميدة ، وعمل الشر عسر ومغبته ذميمة ، ولا عجب في تعجبه ، فقد كان مجبولا من طينة الخير ، سليم الفطرة من عوارض الشر ، حتى لم تؤثر في نفسه الزكية الشرور التي كانت تحيط به من أول نشأته إلى يوم وفاته قدس الله روحه ورضي عنه . والمسألة تحتاج إلى زيادة في البسط لكثرة اشتباه الناس فيها ، ولشدة ما عارضنا في تقريرها الطلاب في الدرس ، والباحثون في المحاضرات ، ولئن سألتهم ما هو الشر الفطري في البشر ؟ ليقولن : حب الشهوات والغضب وما ينشأ عنهما من الأعمال والأخلاق ، ولولا هاتان الغريزتان لما جلب أحد لنفسه ولا لغيره نفعا ، ولما دفع ضرا ، ولما ظهر من أعمال الإنسان ما نرى من أسرار الطبيعة ومحاسن الخليقة ، بل لولاهما لبادت الأفراد وانقرض النوع من الأرض ، وفي الفطرة والدين والمرشد إلى كمالها ما يكفي لإقامة الميزان القسط فيهما غالبا ، حتى لا يغلب في الأمة تفريط ولا إفراط ، ويكون الخير أصلا عاما ، والشر عرضا مفارقا ، والأصل الذي لا ينازع فيه أحد أن الإنسان قد جبل على ألا يعمل عملا إلا إذا اعتقد أنه نافع ، وأن فعله خير له من تركه ، وذلك شأنه في الترك أيضا ، وأن هداياته الأربع : الحس والوجدان والعقل والدين كافية لأن يعتقد أن كل خير نافع ، وكل شر ضار ، فإذا قصر في الاهتداء بهذه الهدايات فوقع في الشر كان وقوعه فيه أثرا لتنكب طريق الفطرة لا للسير على جادتها ، وأكثر أعمال الناس نافعة لهم غير ضارة بغيرهم ، ومن التفصيل في المسألة ما تقدم في كذب الأطفال ، ومنه ما سئلنا عنه في الدرس ومجالس البحث من الميل إلى الزنا مثلا ، وأجبنا بأن الإنسان لا يميل بفطرته إلى الزنا ، وإنما يميل إلى الوقاع ، وهذا من الخير وأصول الكمال في الفطرة ، وإنما الزنا وضع له في غير
[ ص: 123 ] موضعه ، وذلك من العوارض الطارئة التي تكثر بترك مقومات الفطرة وحوافظها من نذر الدين وقضايا العقل وآداب الاجتماع ، ولقد كنت قبل الوقوف على أحوال الناس - لا سيما في بلاد
مصر - أظن أن الزنا لا يكاد يقع إلا نادرا من بعض أفراد الجاهلين ، وهذا ما يعتقده كل من ينشأ في بيئة تغلب فيها العفة ، ولم يعرف حال غيرها ولا أخبار الشاذين فيها ، ولو كان فطريا لشعر كل أحد من نفسه بالحاجة إليه ، كما يشعر بأنه في حاجة إلى زوج يتحد به ، ولعل ما أوردناه كاف للمتدبر ، ولا يتسع التفسير لأكثر منه .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286nindex.php?page=treesubj&link=28973_20716لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يُحَاسِبُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا ، وَالتَّكْلِيفُ : هُوَ الْإِلْزَامُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ ، وَالْوُسْعُ: مَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا عُسْرٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ مَا دُونُ مَدَى طَاقَتِهِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُ - تَعَالَى - وَسُنَّتَهُ فِي شَرْعِ الدِّينِ أَلَّا يُكَلِّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ . وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْلِيفِ ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ قَرِيبًا . وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لَمْ يَقَعْ كَمَا قَالُوا ، امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا قَبِلَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [ 3 : 102 ] كَمَا قِيلَ .
وَفِي الْجُمْلَةِ وَجْهَانِ قِيلَ : هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَأَنَّهُ بِشَارَةٌ بِغُفْرَانِ مَا طَلَبُوا غُفْرَانَهُ
[ ص: 121 ] مِنَ التَّقْصِيرِ وَتَيْسِيرِ مَا قَدْ يُشَمُّ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّعْسِيرِ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِ الْغُفْرَانِ قَدْ أُذِنُوا بِأَنْ يُصْغُوا لِلَّهِ - تَعَالَى - بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الرَّأْفَةِ بِعِبَادِهِ ، وَالْحِكْمَةِ فِي سِيَاسَتِهِمْ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ قِيلَ : إِنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ نُقِلَ عَنِ
الْوَاحِدِيِّ . وَقِيلَ : إِنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ ، وَقَالَ : إِنَّهُ الصَّوَابُ ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَمِلَ وَاعْتَمَلَ ، فَكُلُّ مَنِ اكْتَسَبَ وَاعْتَمَلَ يُفِيدُ الِاخْتِرَاعَ وَالتَّكَلُّفَ ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَةَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ ، وَأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ الشَّرَّ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّأَسِّي . وَالْمَعْنَى : أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَعَلَيْهَا عِقَابُ مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32406الْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ خَيْرٌ بِالطَّبْعِ أَوْ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ ؟ وَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَمْيَلُ بِفِطْرَتِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تَرْبِيَّتِهِ ، الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَا شَكَّ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخَيْرِ مِمَّا أُودِعَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ ، وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا فِيهِ نَفْعُ نَفْسِكَ وَنَفْعُ النَّاسِ . وَجُمَّاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِنْسَانُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ بِطَبْعِهِ ، وَتَكُونُ فِيهِ لَذَّتُهُ ، وَيَمِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ مَغْرُوسٌ فِي الطَّبْعِ ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ ، وَأَقَلُّهُ الْبَشَاشَةُ وَالِارْتِيَاحُ لِلْمُنْعِمِ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِ الرِّضَا ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ بِأَسْبَابٍ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِهَا وَلَا مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا ، وَمَهْمَا كَانَ الْإِنْسَانُ شِرِّيرًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَّ مَمْقُوتٌ فِي نَظَرِ النَّاسِ وَصَاحِبَهُ مَهِينٌ عِنْدَهُمْ ، فَإِنَّ الطِّفْلَ يَنْشَأُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنَ النَّاسِ فَيَتَعَلَّمُهُ ، وَإِذَا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِكَلَامِ مَنْ يَصِفُ شَيْئًا يَزِيدُ فِيهِ وَيُبَالِغُ كَاذِبًا اسْتَحَبَّ الْكَذِبَ وَافْتَرَاهُ لِيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ النَّاسِ ، وَيَحْظَى بِإِعْجَابِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَشْعُرُ بِقُبْحِهِ حَتَّى إِذَا نُبِزَ أَمَامَهُ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْكَاذِبِ أَوِ الْكَذَّابِ أَحَسَّ بِمَهَانَةِ نَفْسِهِ وَخِزْيِهَا ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اقْتِرَافِ كُلِّ شَرٍّ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِقُبْحِهِ وَيَجِدُ مِنْ أَعْمَاقِ سَرِيرَتِهِ هَاتِفًا يَقُولُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ وَيُوَبِّخُهُ إِلَّا فِي النَّادِرِ ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ شَرًّا مَحْضًا - يُرِيدُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَأْلَفُ أَحَدٌ الشَّرَّ وَيَنْطَبِعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ طَبْعًا لَهُ لَا تَشْعُرُ نَفْسُهُ بِقُبْحِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ : إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمِلْيُونِ مِنَ النَّاسِ شِرِّيرٌ وَاحِدٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ شَرٌّ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ أَرَادُوا مِنَ الطَّبْعِ مَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ غَالِبَ النَّاسِ وَلَمْ يُلَاحِظُوا فِيهِ مَعْنَى الْغَرِيزَةِ وَمَنَاشِئَ الْعَمَلِ مِنَ الْفِطْرَةِ ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ بَيْنَ مُنَازَعَاتِ الْكَوْنِ وَفَوَاعِلِ الطَّبِيعَةِ وَأَحْيَائِهَا
[ ص: 122 ] وَمُغَالَبَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ هَذَا الْجِهَادُ إِلَى الْأَثَرَةِ وَتَوْفِيرِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَيُلْجِئُهُ الظُّلْمُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَأْتِيهِ مُتَعَلِّمًا إِيَّاهُ تَعَلُّمًا مُتَكَلِّفًا لَهُ تَكَلُّفًا ، وَفِي نَفْسِهِ ذَلِكَ الْهَاتِفُ الْفِطْرِيُّ يَقُولُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ ، وَهُوَ النِّبْرَاسُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَصْلِ فِطْرَتِهِ لَا يَرَى إِلَّا الْخَيْرَ ، وَلَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَيْهِ ، وَإِذَا تَأَمَّلَ فِي الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّوَارِئِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَنْ يَنْشَأُ بَيْنَ قَوْمٍ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ ، وَأَشَدُّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ نَنْظُرَ فِي شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَنَا وَهَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِالْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ إِلَى مَنْ دُونَهُ يَجْعَلُهُ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيهِ مِنَ النِّعَمِ بَعِيدًا عَنِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ الشُّرُورِ ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ فِي حَالِ مَنْ فَوْقِنَا مِنْهَا لِأَجْلِ مُبَارَاتِهَا وَمُسَامَاتِهَا .
هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِيضَاحٍ ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَيْرِ : كَسَبَتْ وَفِي الشَّرِّ اكْتَسَبَتْ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرَى أَنَّ أَحَقَّ مَا يُتَعَجَّبُ لَهُ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ كَثْرَةُ عَمَلِ الشَّرِّ وَقِلَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ سَهْلٌ وَعَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ ، وَعَمَلَ الشَّرِّ عَسِرٌ وَمَغَبَّتُهُ ذَمِيمَةٌ ، وَلَا عَجَبَ فِي تَعَجُّبِهِ ، فَقَدْ كَانَ مَجْبُولًا مِنْ طِينَةِ الْخَيْرِ ، سَلِيمَ الْفِطْرَةِ مِنْ عَوَارِضِ الشَّرِّ ، حَتَّى لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الشُّرُورُ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ . وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْبَسْطِ لِكَثْرَةِ اشْتِبَاهِ النَّاسِ فِيهَا ، وَلِشِّدَّةِ مَا عَارَضَنَا فِي تَقْرِيرِهَا الطُّلَّابُ فِي الدَّرْسِ ، وَالْبَاحِثُونَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَا هُوَ الشَّرُّ الْفِطْرِيُّ فِي الْبَشَرِ ؟ لَيَقُولُنَّ : حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَالْغَضَبُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الْغَرِيزَتَانِ لَمَا جَلَبَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا ، وَلَمَا دَفَعَ ضَرًّا ، وَلَمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ مَا نَرَى مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَمَحَاسِنِ الْخَلِيقَةِ ، بَلْ لَوْلَاهُمَا لَبَادَتِ الْأَفْرَادُ وَانْقَرَضَ النَّوْعُ مِنَ الْأَرْضِ ، وَفِي الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ وَالْمُرْشِدِ إِلَى كَمَالِهَا مَا يَكْفِي لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِيهِمَا غَالِبًا ، حَتَّى لَا يَغْلِبَ فِي الْأُمَّةِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ أَصْلًا عَامًّا ، وَالشَّرُّ عَرَضًا مُفَارِقًا ، وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ جُبِلَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَافِعٌ ، وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا ، وَأَنَّ هِدَايَاتِهِ الْأَرْبَعَ : الْحِسَّ وَالْوِجْدَانَ وَالْعَقْلَ وَالدِّينَ كَافِيَةٌ لِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَافِعٌ ، وَكُلَّ شَرٍّ ضَارٌّ ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ فَوَقَعَ فِي الشَّرِّ كَانَ وُقُوعُهُ فِيهِ أَثَرًا لِتَنَكُّبِ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ لَا لِلسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهَا ، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ النَّاسِ نَافِعَةٌ لَهُمْ غَيْرُ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَذِبِ الْأَطْفَالِ ، وَمِنْهُ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَمَجَالِسِ الْبَحْثِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الزِّنَا مَثَلًا ، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمِيلُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى الزِّنَا ، وَإِنَّمَا يَمِيلُ إِلَى الْوِقَاعِ ، وَهَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَأَصُولِ الْكَمَالِ فِي الْفِطْرَةِ ، وَإِنَّمَا الزِّنَا وُضِعَ لَهُ فِي غَيْرِ
[ ص: 123 ] مَوْضِعِهِ ، وَذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ الَّتِي تَكْثُرُ بِتَرْكِ مُقَوِّمَاتِ الْفِطْرَةِ وَحَوَافِظِهَا مِنْ نُذُرِ الدِّينِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ وَآدَابِ الِاجْتِمَاعِ ، وَلَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ - لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ
مِصْرَ - أَظُنُّ أَنَّ الزِّنَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجَاهِلِينَ ، وَهَذَا مَا يَعْتَقِدُهُ كُلُّ مَنْ يَنْشَأُ فِي بِيئَةٍ تَغْلُبُ فِيهَا الْعِفَّةُ ، وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ غَيْرِهَا وَلَا أَخْبَارَ الشَّاذِّينَ فِيهَا ، وَلَوْ كَانَ فِطْرِيًّا لَشَعَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، كَمَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى زَوْجٍ يَتَّحِدُ بِهِ ، وَلَعَلَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ كَافٍ لِلْمُتَدَبِّرِ ، وَلَا يَتَّسِعُ التَّفْسِيرُ لِأَكْثَرَ مِنْهُ .