nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187nindex.php?page=treesubj&link=28974_29434وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=189ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في
أهل الكتاب - وقد تقدم أنه - تعالى - ذكر أحوال النصارى منهم وحاجهم في
[ ص: 228 ] أول السورة - ثم ذكر بعض أحوال
اليهود قبل قصة
أحد ، ثم عاد إلى بيان بعض شئونهم بعدها ، فكان منه ما في هذه الآية وهو كتمان ما أمروا ببيانه ، واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما . وقال
الرازي : اعلم أن في كيفية النظم وجهين : ( الأول ) أنه - تعالى - لما حكى عن
اليهود شبها طاعنة في نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وأجاب عنها أتبعه بهذه الآية ; وذلك لأنه - تعالى - أوجب عليهم في التوراة والإنجيل - على أمة
موسى ،
وعيسى عليهما السلام - أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل على صحة دينه ، وصدق نبوته ، ورسالته ، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل : كيف يليق بكم إيراد
nindex.php?page=treesubj&link=28757_32428الطعن في نبوته ، ودينه مع أن كتبكم ناطقة ، ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صحة نبوته ، ودينه ، ( الثاني ) أنه - تعالى - لما أوجب في الآية المتقدمة على
محمد - صلى الله عليه وسلم - احتمال الأذى من أهل الكتاب ، وكان من جملة إيذائهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة ، والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ، ويذكرون لها تأويلات فاسدة ، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر اهـ . وقد علمت ما هو المراد بالأذى في تفسير الآية السابقة .
وقال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآية ، وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من
nindex.php?page=treesubj&link=32024البلاء الذي يصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه ، ومحافظتهم في الشدائد عليه ، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين ، ووطن عليه نفوسهم - ليثبتوا ويصبروا - أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبلهم ، إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية ، فهو يذكر المؤمنين بذلك ، كأنه يقول لهم : إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعيدهم قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187nindex.php?page=treesubj&link=28974وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب أي اذكروا إذ أخذ الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم ، قال الأستاذ الإمام : ولا نقول في التوراة ؛ لأن القرآن لم يقل بذلك ، ولا بعدمه ، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه ، ونزيد عليه بغير علم
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187لتبيننه للناس ولا تكتمونه أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين ، وفيه معنى التكثير ، والتدريج ، كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين ، فيقال له : الله لتفعلن كذا ، فقرءوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق ، وقرأ
ابن كثير ،
وأبو عمرو ،
وعاصم في رواية
ابن عياش بالمثناة التحتية ( ليبيننه للناس ولا يكتمونه ) لأنهم غائبون . وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة ( راجع ص287 من جزء التفسير الثالث ط الهيئة العامة للكتاب ) .
روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ،
والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو
محمد - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 229 ] وعن
الحسن ،
وقتادة : أنه الكتاب الذي أوتوه وهو الظاهر المتبادر ، ويدخل فيه البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . قال الأستاذ الإمام : وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي ، ولا يئولوه ، ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ، ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس ، ولا اضطراب . وههنا أمران : العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان ، وعدم العلم به بالمرة ، وهو نتيجة الكتمان ، وقد يقال : إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا ، ثم يأمر بالبيان ; لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس ؟ والجواب عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين ; لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو
nindex.php?page=treesubj&link=30218_27989_19262الجهل بالدين ، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا ، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين ، وأما الجهل المركب - وهو فهمه على غير وجهه - فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه .
قال : والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا ، وفي أنفسنا ، فإن كتابنا - وهو
nindex.php?page=treesubj&link=28740القرآن العزيز - لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ ، ونقل ، ونشر كما نشر ، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم ، وهم يتلونه في كل مكان ; حتى إنك تسمعه في الشارع ، والأسواق ، ومجتمعات الأفراح ، والأحزان ، وفي كل حال من الأحوال ، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا ; فإنهم فقدوا هدايته حتى إنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ويعترفون بأن الغش قد عم وطم ، ويعترفون بارتفاع الأمانة ، وشيوع الخيانة إلخ . . إلخ ، وكل هذا من نتائج ترك التبيين .
قال : ولهذه التعمية ، وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=21689_30238الاضطراب في فهم الكتاب أسباب أهمها ما كان من الخلاف بين العلماء من قبل - لاسيما في القرن الثالث - فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع ، وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج له بالكتاب يأخذ ما وافقه منه ويئول ما خالفه ، واتبعهم الناس على ذلك ، ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن ، وتأييد ما يذهبون إليه به ، وتأويل ما عداه ( أقول : بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك ، ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه ، بل كل فائدة عندهم أنه يتبرك به ، ويتعبد بألفاظه ، ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح ) ، حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخلافات ، فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا ، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا ، وحتى إن العلماء يرون
[ ص: 230 ] المنكرات فلا ينكرونها بل كثيرا ما يقعون فيها ، أو يتأولون لفاعليها ، ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه .
وأقول : إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب - وهم المفسرون - لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي ، وكان
جمال الدين يقول : " إن القرآن لا يزال بكرا " ، وإن لي كلمة ما زلت أقولها ، وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم ، وما كان ذلك لبلادة ، وإنما جاء من أمور أهمها : الافتتان بالروايات الكثيرة ، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام ، والأصول ، والفقه ، وغير ذلك ، ومحاولة نصر المذاهب ، وتأييدها .
ثم أقول : إن البيان ، أو التبيين على نوعين : أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه ، وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم ، وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم ، وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه ، ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء ، والسؤال إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس ، وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك ، والقرآن حجة عليهم ، وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله - تعالى - في هذه السورة :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ 3 : 104 ] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء ; فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين ، وأكد بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وأولئك هم المفلحون إلا أن التأكيد فيه دون أخذ الميثاق هنا ، وما فيه من معنى القسم ، ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب ، وبيعه بثمن قليل ، ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187nindex.php?page=treesubj&link=28974_29434وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=189وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَحْوَالَ النَّصَارَى مِنْهُمْ وَحَاجَّهُمْ فِي
[ ص: 228 ] أَوَّلِ السُّورَةِ - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ
الْيَهُودِ قَبْلَ قِصَّةِ
أُحُدٍ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ شُئُونِهِمْ بَعْدَهَا ، فَكَانَ مِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أُمِرُوا بِبَيَانِهِ ، وَاسْتِبْدَالُ مَنْفَعَةٍ حَقِيرَةٍ بِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ إِلَّا بِآيَتَيْنِ قَدْ عُرِفَتْ حِكْمَةُ وَضْعِهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا . وَقَالَ
الرَّازِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا حَكَى عَنِ
الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ عَنْهَا أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - عَلَى أُمَّةِ
مُوسَى ،
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ ، وَصِدْقِ نَبُوَّتِهِ ، وَرِسَالَتِهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ : كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ
nindex.php?page=treesubj&link=28757_32428الطَّعْنِ فِي نَبُوَّتِهِ ، وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَبُوَّتِهِ ، وَدِينِهِ ، ( الثَّانِي ) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا ، وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ اهـ . وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=32024الْبَلَاءِ الَّذِي يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا يُصَابُونَ بِهِ لِأَخْذِهِمْ بِالْحَقِّ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ ، وَمُحَافَظَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهِ ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَطَّنَ عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ - لِيَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا - أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، إِذْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِبَيَانِ الْحَقِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ ، فَهُوَ يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : إِنَّكُمْ إِذَا كَتَمْتُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَكُونُ وَعِيدُكُمْ كَوَعِيدِهِمْ قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187nindex.php?page=treesubj&link=28974وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَلَا نَقُولُ فِي التَّوْرَاةِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ ، وَلَا بِعَدَمِهِ ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقَيِّدَ بِرَأْيِنَا مَا أَطْلَقَهُ ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ أَيْ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ إِيجَابَ الْبَيَانِ أَوِ التَّبْيِينِ ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ ، وَالتَّدْرِيجِ ، كَمَا يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَهَمَّ الْأُمُورِ بِالْعَهْدِ وَالْيَمِينِ ، فَيُقَالُ لَهُ : اللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا ، فَقَرَءُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ حِكَايَةً لِلْمُخَاطَبَةِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْمِيثَاقَ ، وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ ،
وَأَبُو عَمْرٍو ،
وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ
ابْنِ عَيَّاشٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ ( لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ ) لِأَنَّهُمْ غَائِبُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي الْآيَةِ 81 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ( رَاجِعْ ص287 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ ) .
رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ،
وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِبَيَانِهِ هُوَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
[ ص: 229 ] وَعَنِ
الْحَسَنِ ،
وَقَتَادَةَ : أَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَتَبْيِينُهُ هُوَ أَنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ ، وَلَا يُئَوِّلُوهُ ، وَلَا يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وُضِعَ لِتَقْرِيرِهَا ، وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ فِي فَهْمِهِ لَبْسٌ ، وَلَا اضْطِرَابٌ . وَهَهُنَا أَمْرَانِ : الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ عَدَمِ الْبَيَانِ ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ بِالْمَرَّةِ ، وَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتْمَانِ ، وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ فِي التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْكِتْمَانِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْبَيَانِ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ إِظْهَارِ الْكِتَابِ فَلِمَاذَا عَكَسَ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدَّمَ أَهَمَّ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتْمَانُ تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْبَسِيطَ وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=30218_27989_19262الْجَهْلُ بِالدِّينِ ، وَفِي الثَّانِي تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا ، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ أَهْوَنُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْفَرَ بِالْكِتَابِ يَوْمًا فَيَهْتَدِيَ بِهِ وَيَعْرِفَ الدِّينَ ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ - وَهُوَ فَهْمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ - فَيَعْسُرُ زَوَالُهُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ ضَالًّا مَعَ وُجُودِ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ أَمَامَهُ .
قَالَ : وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَنَا ، وَفِي أَنْفُسِنَا ، فَإِنَّ كِتَابَنَا - وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28740الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ - لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ فِي الدُّنْيَا حُفِظَ كَمَا حُفِظَ ، وَنُقِلَ ، وَنُشِرَ كَمَا نُشِرَ ، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ ، وَهُمْ يَتْلُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُهُ فِي الشَّارِعِ ، وَالْأَسْوَاقِ ، وَمُجْتَمَعَاتِ الْأَفْرَاحِ ، وَالْأَحْزَانِ ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عَدَمُ الْكِتْمَانِ شَيْئًا ; فَإِنَّهُمْ فَقَدُوا هِدَايَتَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْحَرِفُونَ عَنْهُ ، وَأَنَّ الْقَابِضَ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْغِشَّ قَدْ عَمَّ وَطَمَّ ، وَيَعْتَرِفُونَ بِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ ، وَشُيُوعِ الْخِيَانَةِ إلخ . . إلخ ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ التَّبْيِينِ .
قَالَ : وَلِهَذِهِ التَّعْمِيَةِ ، وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=21689_30238الِاضْطِرَابِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ أَسْبَابٌ أَهَمُّهَا مَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلُ - لَاسِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ - فَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ إِلَى شِيَعٍ وَذَهَبَتْ فِي الْخِلَافِ مَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْكِتَابِ يَأْخُذُ مَا وَافَقَهُ مِنْهُ وَيُئَوِّلُ مَا خَالَفَهُ ، وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ، وَرَضِيَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ حَتَّى جَاءَتْ أَزْمِنَةٌ تَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ التَّحَاكُمَ إِلَى الْقُرْآنِ ، وَتَأْيِيدَ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ بِهِ ، وَتَأْوِيلَ مَا عَدَاهُ ( أَقُولُ : بَلْ وَصَلْنَا إِلَى زَمَنٍ يُحَرِّمُونَ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلَا يَرَوْنَ فِيهِ لِلْقُرْآنِ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ ، بَلْ كُلُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ ، وَيُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ ، وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْجَسَدِ دُونَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ ) ، حَتَّى صِرْنَا نَتَمَنَّى لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْخِلَافَاتُ ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنَ بَتَاتًا ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي اضْطِرَابٍ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى صَارُوا يَحْسَبُونَ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا ، وَحَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرَوْنَ
[ ص: 230 ] الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يُنْكِرُونَهَا بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فِيهَا ، أَوْ يَتَأَوَّلُونَ لِفَاعِلِيهَا ، وَلَوْ بَيَّنُوا لِلنَّاسِ كِتَابَ اللَّهِ لَقَبِلُوهُ .
وَأَقُولُ : إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ - وَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ - لَمْ يَكُنْ تَبْيِينُهُمْ كَامِلًا كَمَا يَنْبَغِي ، وَكَانَ
جَمَالُ الدِّينِ يَقُولُ : " إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَزَالُ بِكْرًا " ، وَإِنَّ لِي كَلِمَةً مَا زِلْتُ أَقُولُهَا ، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا كُتُبُهُمْ هُوَ عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ التَّامِّ فِي الْفَهْمِ ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِبَلَادَةٍ ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ أُمُورٍ أَهَمُّهَا : الِافْتِتَانُ بِالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ ، وَتَغَلُّبُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ فِي الْكَلَامِ ، وَالْأُصُولِ ، وَالْفِقْهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمُحَاوَلَةُ نَصْرِ الْمَذَاهِبِ ، وَتَأْيِيدِهَا .
ثُمَّ أَقُولُ : إِنَّ الْبَيَانَ ، أَوِ التَّبْيِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا تَبْيِينُهُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ ، وَثَانِيهِمَا تَبْيِينُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ إِرْشَادِهِمْ ، وَهِدَايَتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَاجِبٌ حَتْمٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ ، وَالسُّؤَالِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْعَالِمَ لَا يِجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِدَعْوَةِ النَّاسِ ، وَتَعْلِيمِهِمْ إِلَّا إِذَا سَأَلُوهُ ذَلِكَ ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آكَدُ فِي الْإِيجَابِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ 3 : 104 ] الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِلَّا أَنَّ التَّأْكِيدَ فِيهِ دُونَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هُنَا ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ تَرْكِ الِامْتِثَالِ بِنَبْذِ الْكِتَابِ ، وَبَيْعِهِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ ، وَمِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَالَ :