[ ص: 288 ] (
nindex.php?page=treesubj&link=10990حكمة تعدد الزوجات ) ( س 20 من
نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في
أمريكا : يسألني كثير من أطباء الأمريكانيين ، وغيرهم عن الآية الشريفة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ويقولون : كيف يجمع المسلم بين أربعة نسوة ؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافعة عن ديني وقلت : إن العدل بين اثنتين مستحيل ; لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن يكره القديمة ، فكيف يعدل بينهما ، والله أمر بالعدل ، فالأحسن واحدة ، هذا ما قلته وربما أقنعهم ، ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية : وما قولكم في الذين يتزوجون ثنتين وثلاثا ؟ .
( ج ) إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الأزواج أكبر قادح في الإسلام متأثرين بعاداتهم ، وتقليدهم الديني ، وغلوهم في تعظيم النساء ، وبما يسمعون ويعلمون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون عدة زوجات لمجرد التمتع الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك ، وبما يعطيه النظر من فساد البيوت التي تتكون من زوج واحد ، وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ، ويتنازعون ، ويتباغضون . ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل ، وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من حيث معنى الزوجية ، والغرض منها ، وفي عدد الرجال ، والنساء في الأمم أيهما أكثر ، وفي مسألة المعيشة المنزلية ، وكفالة الرجال للنساء ، أو العكس ، أو استقلال كل من الزوجين بنفسه ، وفي تاريخ النشوء البشري ليعلم هل كان الناس في طور البداوة يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة ، وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن مسألة تعدد الزوجات أمرا دينيا مطلوبا ، أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق فيها ؟
أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة ، وأهم التباين بينهما ، ومما نعلم نحن بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبا للأنثى منها له ، وأنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته ، ولكن يوجد كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن ، ولولا أن المرأة مغرمة بأن تكون محبوبة من الرجل ، وكثيرة التفكر في الحظوة عنده لوجد في النساء من الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن . وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل المتولد من داعية التناسل الطبيعية فيها ، وفي الرجل ، وهو الذي يحمل العجوز ، والتي لا ترجو زواجا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المعرضة ، والسبب عندي في هذا معظمه اجتماعي ، وهو ما ثبت في طبيعة النساء ، واعتقادهن القرون الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجال ، وكفالتهم وكون عناية الرجل بالمرأة على قدر حظوتها عنده ، وميله إليها ، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية فعملن له حتى صار ملكة موروثة فيهن حتى
[ ص: 289 ] إن المرأة لتبغض الرجل ، ويؤلمها مع ذلك أن يعرض عنها ، ويمتهنها ، وإنهن ليألمن أن يرين رجلا - ولو شيخا كبيرا أو راهبا متبتلا - لا يميل إلى النساء ، ولا يخضع لسحرهن ، ويستجيب لرقيتهن . ونتيجة هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة ، فهذه مقدمة أولى .
ثم إن
nindex.php?page=treesubj&link=10800الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر ، والأنثى إلى الآخر الميل الذي يدعو إلى الزواج هي التناسل الذي يحفظ به النوع ، كما أن الحكمة في شهوة التغذي هي حفظ الشخص . والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي للإنسان وهو مائة سنة . وسبب ذلك أن قوة المرأة تضعف عن الحمل بعد الخمسين في الغالب ، فينقطع دم حيضها وبويضات التناسل من رحمها ، والحكمة ظاهرة في ذلك ، والأطباء أعلم بتفصيلها ، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلا من النسل الذي هو مقصود الزواج ، إذا فرض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن ، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه ، وعاش العمر الطبيعي كما يضيع على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه ، وعلى كل حال يضيع عليه شيء من عمره حتى لو تزوج ، وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة عشرة يضيع عليه خمس عشرة سنة . وما عساه يطرأ على الرجال من مرض ، أو هرم عاجل ، أو موت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل سن اليأس ، وقد لاحظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال : لو تركنا رجلا واحدا مع مائة امرأة سنة واحدة لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مائة إنسان ، وأما إذا تركنا مائة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون لنا من نسلهم إنسان واحد ، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدا ; لأن كل واحد من الرجال يفسد حرث الآخر . ومن لاحظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة ، وفي حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق - فهذه مقدمة ثانية .
ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض ترى الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت ، والاشتغال عن التزوج أكثر مما يعرض للنساء ، ومعظم ذلك في الجندية والحروب ، وفي العجز عن القيام بأعباء الزواج ، ونفقاته ; لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة ، وفيما جرت عليه سنة الشعوب ، والأمم إلا ما شذ ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن يتزوج بأكثر من واحدة اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ، ومنعهن من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن وإلى إلزامهن مجاهدة داعية النسل في طبيعتهن ، وذلك يحدث أمراضا بدنية ، وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات
[ ص: 290 ] عالة على الأمة ، وبلاء فيها بعد أن كن نعمة لها ، أو إلى إباحة أعراضهن والرضا بالسفاح .
وفي ذلك من المصائب عليهن - لا سيما إذا كن فقيرات - ما لا يرضى به ذو إحساس بشري ، وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية حتى أعيا الناس أمرها ، وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات .
ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي غير واحدة من كاتبات الإنكليز ، وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد الرابع من المنار ( تراجع في ص741 منه ) ، وإنما كان هذا عجيبا لأن النساء ينفرن من هذا الأمر طبعا ، وهن يحكمن بمقتضى الشعور ، والوجدان أكثر مما يحكمن بمقتضى المصلحة ، والبرهان ، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة وجدانية عند رجال الإفرنج تبعا لنسائهم حتى لا تجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن يبحث في فوائدها ، وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض - طالب كشف الحقيقة - فهذه مقدمة ثالثة .
وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية ، وأشرف بك على حكم العقل والفطرة فيها ، وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة ، وسيد المنزل لقوة بدنه ، وعقله ، وكونه أقدر على الكسب ، والدفاع ، وهذا هو معنى قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ 4 : 34 ] وأن المرأة يجب أن تكون مدبرة المنزل ، ومربية الأولاد لرقتها ، وصبرها ، وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين الرجل ، والطفل ، فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد للرجولة ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها الطبيعي .
وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة : إن البيت مملكة صغرى كما أن مجموع البيوت هو المملكة الكبرى ، فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية والمعارف ، وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية ، والأشغال العمومية ، والحربية ، والخارجية ، وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة قيمة البيت ، وعملها محصورا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها ، وبما يعوقها من الحبل ، والولادة ، ومداراة الأطفال ، وكانت بذلك عالة على الرجل كان من الشطط تكليفها المعيشة الاستقلالية بله السيادة ، والقيام على الرجل ، وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في كفالة الرجل ، وأن الرجال قوامون على النساء كما هو ظاهر ، فماذا نعمل ، والنساء ( قد يكن ) أكثر من الرجال عددا ؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح للرجل الواحد كفالة عدة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي تجتاح الرجال ، وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير ؟ ويزيد بعضهم على هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسر له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس ، ولكن المنزل لا يشمل على غير أهله ، وقد تمس الحاجة إلى مساعدة للمرأة على أعمالها الكثيرة كما تقضي قواعد علم
[ ص: 291 ] الاقتصاد في توزيع الأعمال ، ولا ينبغي أن يكون من يساعدها في البيت من الرجال لما في ذلك من المفاسد ، فمن المصلحة على هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته - كذا قال بعضهم - فهذه مقدمة رابعة .
وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء في الزواج ، والبيوت ( العائلات ) ، أو في الازدواج ، والإنتاج تجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات ، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي في ذلك ، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقا مشاعا للرجال بحسب التراضي ، وكانت الأم هي رئيسة البيت إذ الأب غير متعين في الغالب ، وكان الإنسان كلما ارتقى يشعر بضرر هذا الشيوع ، والاختلاط ، ويميل إلى الاختصاص ، فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال قبيلة أخرى ، وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء من غير تقيد بعدد معين ، بل حسب ما يتيسر له ، فانتقل بهذا تاريخ البيوت ( العائلات ) إلى دور جديد صار فيه الأب عمود النسب ، وأساس البيت كما بين ذلك بعض علماء الألمان ، والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت ( العائلات ) ، ومن هنا يذهب الإفرنج إلى أن نهاية الارتقاء هو أن يخص الرجل الواحد بامرأة واحدة ، وهو مسلم ، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت ، ولكن ماذا يقولون في العوارض الطبيعية ، والاجتماعية التي تلجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء لمصلحتهن ، ومصلحة الأمة ، ولاستعداده الطبيعي لذلك ، وليخبرونا هل رضي الرجال بهذا الاختصاص ، وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم ؟ أيوجد في أوربا في كل مائة ألف رجل رجل واحد لا يزني ؟ كلا . إن الرجل بمقتضى طبيعته ، وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة لغشيان الرجل إياها ، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان وفائدته ، وهو النسل فداعية الغشيان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت ، ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات ، وممنوع في غيرها ، فالداعية الطبيعية في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عقب الطهر من الحيض ، وأما في حال الحيض وحال الحمل والإثقال فتأبى طبيعتها ذلك . وأظن أنه لولا توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل والحظوة عنده ، ولولا ما يحدثه التذكر والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها ، ولا سيما مع تأثير التربية والعادات العمومية لكان النساء يأبين الرجال في أكثر أيام الطهر التي لا يكن فيها مستعدات للعلوق الذي هو مبدأ الإنتاج ، ومن هذا التقرير يعلم أن اكتفاء الرجل بامرأة واحدة يستلزم أن يكون مندفعا بطبيعته إلى الإفضاء إليها في أيام طويلة هي فيها غير مستعدة لقبوله أظهرها أيام الحيض ، والإثقال بالحمل ، والنفاس ، وأقلها ظهورا أيام الرضاع لا سيما الأيام الأولى ، والأخيرة من
[ ص: 292 ] أيام طهرها . وقد ينازع في هذه لغلبة العادة فيها على الطبيعة ، وأما اكتفاء المرأة برجل واحد فلا مانع منه في طبيعتها ، ولا لمصلحة النسل ، بل هو الموافق لذلك إذ لا تكون المرأة في حال مستعدة فيها لملامسة الرجل ، وهو غير مستعد ما داما في اعتدال مزاجهما ، ولا نذكر المرض ; لأن الزوجين يستويان فيه ، ومن حقوق الزوجية ، وآدابها أن يكون لكل منهما شغل بتمريض الآخر في وقت مصابه عن السعي وراء لذته ، وقد ذكر عن بعض محققي الأوربيين أن تعدد الأزواج الذي وجد في بعض القبائل المتوحشة كان سببه قلة البنات لوأد الرجال إياهن في ذلك العصر - فهذه مقدمة خامسة .
بعد هذا كله أجل طرفك معي في تاريخ الأمة العربية قبل الإسلام تجد أنها كانت قد ارتفعت إلى أن صار فيها الزواج الشرعي هو الأصل في تكوين البيوت ، والرجل هو عمود البيت ، وأصل النسب ، ولكن تعدد الزوجات لم يكن محدودا بعدد ، ولا مقيدا بشرط ، وكان اختلاف عدة رجال إلى امرأة واحدة يعد من الزنا المذموم ، وكان الزنا على كثرته يكاد يكون خاصا بالإماء ، وقلما يأتيه الحرائر إلا أن يأذن الرجل امرأته بأن تتبضع من رجل يعجبها ابتغاء نجابة الولد ، والزنا لم يكن معيبا ، ولا عارا صدوره من الرجل ، وإنما كان يعاب من حرائر النساء . وقد حظر الإسلام الزنا على الرجال ، والنساء جميعا حتى الإماء ، فكان يصعب جدا على الرجال قبول الإسلام ، والعمل به مع هذا الحجر بدون إباحة تعدد الزوجات . ولولا ذلك لاستبيح الزنا في بلاد الإسلام كما هو مباح في بلاد الإفرنج - فهذه مقدمة سادسة .
ولا تنس مع العلم بهذه المسائل أن غاية الترقي في نظام الاجتماع وسعادة البيوت ( العائلات ) أن يكون تكون البيت من زوجين فقط يعطي كل منهما الآخر ميثاقا غليظا على الحب ، والإخلاص ، والثقة ، والاختصاص ، حتى إذا ما رزقا أولادا كانت عنايتهما متفقة على حسن تربيتهم ليكونوا قرة عين لهما ، ويكونا قدوة صالحة لهم في الوفاق ، والوئام ، والحب ، والإخلاص - فهذه مقدمة سابعة .
إذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها وعرفت فرعها ، وأصلها تتجلى لك هذه النتيجة ، أو النتائج ، وهي : أن الأصل في السعادة الزوجية ، والحياة الدينية هو أن يكون للرجل زوجة واحدة ، وأن هذا هو غاية الارتقاء البشري في بابه ، والكمال الذي ينبغي أن يربى الناس عليه ويقتنعوا به ، وأنه قد يعرض له ما يحول دون أخذ الناس كلهم به ، وتمس الحاجة إلى كفالة الرجل الواحد لأكثر من امرأة واحدة ، وأن ذلك قد يكون لمصلحة الأفراد من الرجال ، والنساء كأن يتزوج الرجل بامرأة عاقر فيضطر إلى غيرها لأجل النسل ، ويكون من مصلحتها ، أو مصلحتهما معا ألا يطلقها ، وترضى بأن يتزوج بغيرها لا سيما إذا كان ملكا ، أو أميرا ، أو تدخل المرأة في سن اليأس ويرى الرجل أنه مستعد للإعقاب من غيرها ، وهو قادر على القيام بأود غير واحدة ، وكفاية أولاد كثيرين ، وتربيتهم ، أو يرى أن المرأة الواحدة لا تكفي لإحصانه
[ ص: 293 ] لأن مزاجه يدفعه إلى كثرة الإفضاء ومزاجها بالعكس ، أو تكون فاركا منشاصا ( أي تكره الزوج ) ، أو يكون زمن حيضها طويلا ينتهي إلى خمسة عشر يوما في الشهر ، ويرى نفسه مضطرا إلى أحد الأمرين : التزوج بثانية ، أو الزنا الذي يضيع الدين ، والمال ، والصحة ، ويكون شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام ; ولذلك استبيح الزنا في البلاد التي يمنع فيها التعدد بالمرة .
وقد يكون التعدد لمصلحة الأمة كأن تكثر فيها النساء كثرة فاحشة كما هو الواقع في مثل البلاد الإنكليزية ، وفي كل بلاد تقع فيها حرب مجتاحة تذهب بالألوف الكثيرة من الرجال ، فيزيد عدد النساء زيادة فاحشة تضطرهن إلى الكسب ، والسعي في حاج الطبيعة ، ولا بضاعة لأكثرهن في الكسب سوى أبضاعهن ، وإذا هن بذلنها فلا يخفى على الناظر ما وراء بذلها من الشقاء على المرأة التي لا كافل لها إذا اضطرت إلى القيام بأود نفسها ، وأود ولد ليس له والد ، ولاسيما عقب الولادة ومدة الرضاعة بل الطفولية كلها ، وما قال من قال من كاتبات الإنكليز بوجوب تعدد الزوجات إلا بعد النظر في حال البنات اللواتي يشتغلن في المعامل ، وغيرها من الأماكن العمومية ، وما يعرض لهن من هتك الأعراض ، والوقوع في الشقاء ، والبلاء ، ولكن لما كانت الأسباب التي تبيح تعدد الزوجات هي ضرورات تتقدر بقدرها ، وكان الرجال إنما يندفعون إلى هذا الأمر في الغالب إرضاء للشهوة لا عملا بالمصلحة ، وكان الكمال الذي هو الأصل المطلوب عدم التعدد - جعل التعدد في الإسلام رخصة لا واجبا ، ولا مندوبا لذاته ، وقيد بالشرط الذي نطقت به الآية الكريمة ، وأكدته تأكيدا مكررا فتأملها .
[ ص: 288 ] (
nindex.php?page=treesubj&link=10990حِكْمَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ ) ( س 20 مِنْ
نَجِيبٍ أَفَنْدِي قِنَاوِيٍّ أَحَدِ طَلَبَةِ الطِّبِّ فِي
أَمْرِيكَا : يَسْأَلُنِي كَثِيرٌ مِنْ أَطِبَّاءِ الْأَمِرِيكَانِيِّينَ ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَيَقُولُونَ : كَيْفَ يَجْمَعُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ ؟ فَأَجَبْتُهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَهِمْتُ مِنَ الْآيَةِ مُدَافَعَةً عَنْ دِينِي وَقُلْتُ : إِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَزَوَّجُ الْجَدِيدَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْرَهَ الْقَدِيمَةَ ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ ، فَالْأَحْسَنُ وَاحِدَةٌ ، هَذَا مَا قُلْتُهُ وَرُبَّمَا أَقْنَعَهُمْ ، وَلَكِنْ أُرِيدُ مِنْكُمُ التَّفْسِيرَ وَتَوْضِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ : وَمَا قَوْلُكُمْ فِي الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا ؟ .
( ج ) إِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ يَرَوْنَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الْأَزْوَاجِ أَكْبَرَ قَادِحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَأَثِّرِينَ بِعَادَاتِهِمْ ، وَتَقْلِيدِهِمُ الدِّينِيِّ ، وَغُلُوِّهِمْ فِي تَعْظِيمِ النِّسَاءِ ، وَبِمَا يَسْمَعُونَ وَيَعْلَمُونَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِمَا قَيَّدَ الْقُرْآنُ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ ، وَبِمَا يُعْطِيهِ النَّظَرُ مِنْ فَسَادِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ ، وَزَوْجَاتٍ لَهُنَّ أَوْلَادٌ يَتَحَاسَدُونَ ، وَيَتَنَازَعُونَ ، وَيَتَبَاغَضُونَ . وَلَا يَكْفِي مِثْلُ هَذَا النَّظَرِ لِلْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَا بُدَّ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنَ النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الرَّجُلِ ، وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَالْغَرَضِ مِنْهَا ، وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ فِي الْأُمَمِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ ، وَكَفَالَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ ، أَوِ الْعَكْسِ ، أَوِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِهِ ، وَفِي تَارِيخِ النُّشُوءِ الْبَشَرِيِّ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ النَّاسُ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ يَكْتَفُونَ بِأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ هَلْ جَعَلَ الْقُرْآنُ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَمْرًا دِينِيًّا مَطْلُوبًا ، أَمْ رُخْصَةً تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ مُضَيَّقٍ فِيهَا ؟
أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَةِ الرَّجُلِ وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ ، وَأَهَمِّ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا ، وَمِمَّا نَعْلَمُ نَحْنُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ الرَّجُلَ بِطَبِيعَتِهِ أَكْثَرُ طَلَبًا لِلْأُنْثَى مِنْهَا لَهُ ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ رَجُلٌ عِنِّينٌ لَا يَطْلُبُ النِّسَاءَ بِطَبِيعَتِهِ ، وَلَكِنْ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَطْلُبْنَ الرِّجَالَ بِطَبِيعَتِهِنَّ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُغْرَمَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّجُلِ ، وَكَثِيرَةُ التَّفَكُّرِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَهُ لَوُجِدَ فِي النِّسَاءِ مِنَ الزَّاهِدَاتِ فِي التَّزَوُّجِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ الْآنَ . وَهَذَا الْغَرَامُ فِي الْمَرْأَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَيْلِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ الطَّبِيعِيَّةِ فِيهَا ، وَفِي الرَّجُلِ ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَجُوزَ ، وَالَّتِي لَا تَرْجُو زَوَاجًا عَلَى التَّزَيُّنِ بِمِثْلِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَذْرَاءُ الْمُعَرِّضَةُ ، وَالسَّبَبُ عِنْدِي فِي هَذَا مُعْظَمُهُ اجْتِمَاعِيٌّ ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ ، وَاعْتِقَادِهِنَّ الْقُرُونَ الطَّوِيلَةَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى حِمَايَةِ الرِّجَالِ ، وَكَفَالَتِهِمْ وَكَوْنِ عِنَايَةِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ حُظْوَتِهَا عِنْدَهُ ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهَا ، أَحَسَّ النِّسَاءُ بِهَذَا فِي الْأَجْيَالِ الْفِطْرِيَّةِ فَعَمَلْنَ لَهُ حَتَّى صَارَ مَلَكَةً مَوْرُوثَةً فِيهِنَّ حَتَّى
[ ص: 289 ] إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُبْغِضُ الرَّجُلَ ، وَيُؤْلِمُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا ، وَيَمْتَهِنَهَا ، وَإِنَّهُنَّ لَيَأْلَمْنَ أَنْ يَرَيْنَ رَجُلًا - وَلَوْ شَيْخًا كَبِيرًا أَوْ رَاهِبًا مُتَبَتِّلًا - لَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ ، وَلَا يَخْضَعُ لِسِحْرِهِنَّ ، وَيَسْتَجِيبُ لِرُقْيَتِهِنَّ . وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْمَرْأَةِ ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أُولَى .
ثُمَّ إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10800الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَيْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى إِلَى الْآخَرِ الْمَيْلَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الزَّوَاجِ هِيَ التَّنَاسُلُ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ النَّوْعُ ، كَمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي شَهْوَةِ التَّغَذِّي هِيَ حِفْظُ الشَّخْصِ . وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا ، وَالْحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ ، وَالْأَطِبَّاءُ أَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ ، وَقَدْ يَضِيعُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَعَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ كَمَا يَضِيعُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُرِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ ، وَهُوَ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ بِمَنْ هِيَ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ يَضِيعُ عَلَيْهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . وَمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ هَرَمٍ عَاجِلٍ ، أَوْ مَوْتٍ قَبْلَ بُلُوغِ السِّنِّ الطَّبِيعِيِّ يَطْرَأُ مِثْلُهُ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ : لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً فَأَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا تُنْتِجُ أَحَدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ يُفْسِدُ حَرْثَ الْآخَرِ . وَمَنْ لَاحَظَ عِظَمَ شَأْنِ كَثْرَةِ النَّسْلِ فِي سُنَّةِ الطَّبِيعَةِ ، وَفِي حَالِ الْأُمَمِ يَظْهَرُ لَهُ عِظَمُ شَأْنِ هَذَا الْفَرْقِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَانِيَةٌ .
ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيدَ مِنَ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ تَرَى الرِّجَالَ عَلَى كَوْنِهِمْ أَقَلَّ مِنَ النِّسَاءِ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ التَّزَوُّجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْجُنْدِيَّةِ وَالْحُرُوبِ ، وَفِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الزَّوَاجِ ، وَنَفَقَاتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي أَصْلِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ ، وَفِيمَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الشُّعُوبِ ، وَالْأُمَمِ إِلَّا مَا شَذَّ ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ وَإِلَى إِلْزَامِهِنَّ مُجَاهَدَةَ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي طَبِيعَتِهِنَّ ، وَذَلِكَ يُحْدِثُ أَمْرَاضًا بَدَنِيَّةً ، وَعَقْلِيَّةً كَثِيرَةً يُمْسِي بِهَا أُولَئِكَ الْمِسْكِينَاتُ
[ ص: 290 ] عَالَةً عَلَى الْأُمَّةِ ، وَبَلَاءً فِيهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّ نِعْمَةً لَهَا ، أَوْ إِلَى إِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِنَّ وَالرِّضَا بِالسِّفَاحِ .
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِنَّ - لَا سِيَّمَا إِذَا كُنَّ فَقِيرَاتٍ - مَا لَا يَرْضَى بِهِ ذُو إِحْسَاسٍ بَشَرِيٍّ ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهَا ، وَطَفِقَ أَهْلُ الْبَحْثِ يَنْظُرُونَ فِي طَرِيقِ عِلَاجِهَا فَظَهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الْوَحِيدَ هُوَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ .
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنِ ارْتَأَى هَذَا الرَّأْيَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ ، وَقَدْ نَقَلْنَا ذَلِكَ عَنْهُنَّ فِي مَقَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ ( تُرَاجَعُ فِي ص741 مِنْهُ ) ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا عَجِيبًا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ طَبْعًا ، وَهُنَّ يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الشُّعُورِ ، وَالْوِجْدَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ ، وَالْبُرْهَانِ ، بَلْ إِنَّ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ صَارَتْ مَسْأَلَةً وِجْدَانِيَّةً عِنْدَ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ تَبَعًا لِنِسَائِهِمْ حَتَّى لَا تَجِدَ الْفَيْلَسُوفَ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْحَثَ فِي فَوَائِدِهَا ، وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا بَحْثَ بَرِيءٍ مِنَ الْغَرَضِ - طَالِبٍ كَشْفَ الْحَقِيقَةِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ .
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا إِلَى اكْتِنَاهِ حَالِ الْمَعِيشَةِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَأُشْرِفُ بِكَ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ فِيهَا ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَافِلَ لِلْمَرْأَةِ ، وَسَيِّدَ الْمَنْزِلِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ ، وَعَقْلِهِ ، وَكَوْنِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْكَسْبِ ، وَالدِّفَاعِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ 4 : 34 ] وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةَ الْمَنْزِلِ ، وَمُرَبِّيَةَ الْأَوْلَادِ لِرِقَّتِهَا ، وَصَبْرِهَا ، وَكَوْنِهَا كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَاسِطَةً فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّعَقُّلِ بَيْنَ الرَّجُلِ ، وَالطِّفْلِ ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً لِنَقْلِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلرُّجُولَةِ وَلِجَعْلِ الْبِنْتِ كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللُّطْفِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِعَمَلِهَا الطَّبِيعِيِّ .
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إِنَّ الْبَيْتَ مَمْلَكَةٌ صُغْرَى كَمَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْبُيُوتِ هُوَ الْمَمْلَكَةُ الْكُبْرَى ، فَلِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ إِدَارَةُ نِظَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ ، وَلِلرَّجُلِ مَعَ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ إِدَارَةُ نِظَارَاتِ الْمَالِيَّةِ ، وَالْأَشْغَالِ الْعُمُومِيَّةِ ، وَالْحَرْبِيَّةِ ، وَالْخَارِجِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَيِّمَةَ الْبَيْتِ ، وَعَمَلُهَا مَحْصُورًا فِيهِ لِضَعْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْآخَرِ بِطَبِيعَتِهَا ، وَبِمَا يَعُوقُهَا مِنَ الْحَبَلِ ، وَالْوِلَادَةِ ، وَمُدَارَاةِ الْأَطْفَالِ ، وَكَانَتْ بِذَلِكَ عَالَةً عَلَى الرَّجُلِ كَانَ مِنَ الشَّطَطِ تَكْلِيفُهَا الْمَعِيشَةَ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ بَلْهَ السِّيَادَةَ ، وَالْقِيَامَ عَلَى الرَّجُلِ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلِ ، وَأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، فَمَاذَا نَعْمَلُ ، وَالنِّسَاءُ ( قَدْ يَكُنَّ ) أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ عَدَدًا ؟ أَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُبَاحَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفَالَةُ عِدَّةِ نِسَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ الَّتِي تَجْتَاحُ الرِّجَالَ ، وَتَدَعُ النِّسَاءَ لَا كَافِلَ لِلْكَثِيرِ مِنْهُنَّ وَلَا نَصِيرَ ؟ وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ فِي خَارِجِ الْمَنْزِلِ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى أَعْمَالِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنَّ الْمَنْزِلَ لَا يَشْمَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مُسَاعَدَةٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقْضِي قَوَاعِدُ عِلْمِ
[ ص: 291 ] الِاقْتِصَادِ فِي تَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسَاعِدُهَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ ، فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ عِدَّةُ نِسَاءٍ مَصْلَحَتُهُنَّ عِمَارَتُهُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَابِعَةٌ .
وَإِذَا رَجَعْتَ مَعِي إِلَى الْبَحْثِ فِي تَارِيخِ النُّشُوءِ فِي الزَّوَاجِ ، وَالْبُيُوتِ ( الْعَائِلَاتِ ) ، أَوْ فِي الِازْدِوَاجِ ، وَالْإِنْتَاجِ تَجِدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحَلٍّ لِبَيَانِ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ فِي ذَلِكَ ، بَلْ ثَبَتَ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْقَبَائِلَ الْمُتَوَحِّشَةَ كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ حَقًّا مُشَاعًا لِلرِّجَالِ بِحَسَبِ التَّرَاضِي ، وَكَانَتِ الْأُمُّ هِيَ رَئِيسَةَ الْبَيْتِ إِذِ الْأَبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْغَالِبِ ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا ارْتَقَى يَشْعُرُ بِضَرَرِ هَذَا الشُّيُوعِ ، وَالِاخْتِلَاطِ ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاخْتِصَاصِ ، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِصَاصٍ فِي الْقَبِيلَةِ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهَا لِرِجَالِهَا دُونَ رِجَالِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى ، وَمَا زَالُوا يَرْتَقُونَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ نِسَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ حَسَبَ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ، فَانْتَقَلَ بِهَذَا تَارِيخُ الْبُيُوتِ ( الْعَائِلَاتِ ) إِلَى دَوْرٍ جَدِيدٍ صَارَ فِيهِ الْأَبُ عَمُودَ النَّسَبِ ، وَأَسَاسَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ ، وَالْإِنْكِلِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبٍ لَهُمْ فِي تَارِيخِ الْبُيُوتِ ( الْعَائِلَاتِ ) ، وَمِنْ هُنَا يَذْهَبُ الْإِفْرِنْجُ إِلَى أَنَّ نِهَايَةَ الِارْتِقَاءِ هُوَ أَنْ يُخَصَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبُيُوتِ ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُونَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُلْجِئُ إِلَى أَنْ يَكْفُلَ الرَّجُلُ عِدَّةً مِنَ النِّسَاءِ لِمَصْلَحَتِهِنَّ ، وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ ، وَلِاسْتِعْدَادِهِ الطَّبِيعِيِّ لِذَلِكَ ، وَلِيُخْبِرُونَا هَلْ رَضِيَ الرِّجَالُ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ ، وَقَنَعُوا بِالزَّوَاجِ الْفَرْدِيِّ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْيَوْمِ ؟ أَيُوجَدُ فِي أُورُبَّا فِي كُلِّ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا يَزْنِي ؟ كَلَّا . إِنَّ الرَّجُلَ بِمُقْتَضَى طَبِيعَتِهِ ، وَمَلَكَاتِهِ الْوِرَاثِيَّةِ لَا يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِذِ الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِغِشْيَانِ الرَّجُلِ إِيَّاهَا ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِثَمَرَةِ هَذَا الْغِشْيَانِ وَفَائِدَتِهِ ، وَهُوَ النَّسْلُ فَدَاعِيَةُ الْغِشْيَانِ فِي الرَّجُلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَحْصُورٌ فِي أَوْقَاتٍ ، وَمَمْنُوعٌ فِي غَيْرِهَا ، فَالدَّاعِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الرَّجُلِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ اعْتِدَالِ الْفِطْرَةِ عَقِبَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْحَمْلِ وَالْإِثْقَالِ فَتَأْبَى طَبِيعَتُهَا ذَلِكَ . وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْطِينُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى إِرْضَاءِ الرَّجُلِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ ، وَلَوْلَا مَا يُحْدِثُهُ التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ لِلَذَّةٍ وَقَعَتْ فِي إِبَّانِهَا مِنَ التَّعَمُّلِ لِاسْتِعَادَتِهَا ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَاتِ الْعُمُومِيَّةِ لَكَانَ النِّسَاءُ يَأْبَيْنَ الرِّجَالَ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ الَّتِي لَا يَكُنَّ فِيهَا مُسْتَعِدَّاتٍ لِلْعُلُوقِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِنْتَاجِ ، وَمِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَفِعًا بِطَبِيعَتِهِ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَيْهَا فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ هِيَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِقَبُولِهِ أَظْهَرُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ ، وَالْإِثْقَالِ بِالْحَمْلِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَأَقَلُّهَا ظُهُورًا أَيَّامُ الرَّضَاعِ لَا سِيَّمَا الْأَيَّامُ الْأُولَى ، وَالْأَخِيرَةُ مِنْ
[ ص: 292 ] أَيَّامِ طُهْرِهَا . وَقَدْ يُنَازَعُ فِي هَذِهِ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِيهَا عَلَى الطَّبِيعَةِ ، وَأَمَّا اكْتِفَاءُ الْمَرْأَةِ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ فِي طَبِيعَتِهَا ، وَلَا لِمَصْلَحَةِ النَّسْلِ ، بَلْ هُوَ الْمُوَافِقُ لِذَلِكَ إِذْ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِي حَالٍ مُسْتَعِدَّةً فِيهَا لِمُلَامَسَةِ الرَّجُلِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ مَا دَامَا فِي اعْتِدَالِ مِزَاجِهِمَا ، وَلَا نَذْكُرُ الْمَرَضَ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَآدَابِهَا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شُغْلٌ بِتَمْرِيضِ الْآخَرِ فِي وَقْتِ مُصَابِهِ عَنِ السَّعْيِ وَرَاءَ لَذَّتِهِ ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ مُحَقِّقِي الْأُورُبِّيِّينَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْأَزْوَاجِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْمُتَوَحِّشَةِ كَانَ سَبَبُهُ قِلَّةَ الْبَنَاتِ لِوَأْدِ الرِّجَالِ إِيَّاهُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ خَامِسَةٌ .
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَجِلْ طَرْفَكَ مَعِي فِي تَارِيخِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَجِدْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ ارْتَفَعَتْ إِلَى أَنْ صَارَ فِيهَا الزَّوَاجُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْبُيُوتِ ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ ، وَأَصْلُ النَّسَبِ ، وَلَكِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا بِعَدَدٍ ، وَلَا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ ، وَكَانَ اخْتِلَافُ عِدَّةِ رِجَالٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُعَدُّ مِنَ الزِّنَا الْمَذْمُومِ ، وَكَانَ الزِّنَا عَلَى كَثْرَتِهِ يَكَادُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِمَاءِ ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِ الْحَرَائِرُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَتَبَضَّعَ مِنْ رَجُلٍ يُعْجِبُهَا ابْتِغَاءَ نَجَابَةِ الْوَلَدِ ، وَالزِّنَا لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا ، وَلَا عَارًا صُدُورُهُ مِنَ الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَابُ مِنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ . وَقَدْ حَظَرَ الْإِسْلَامُ الزِّنَا عَلَى الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا حَتَّى الْإِمَاءِ ، فَكَانَ يَصْعُبُ جِدًّا عَلَى الرِّجَالِ قَبُولُ الْإِسْلَامِ ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ هَذَا الْحَجْرِ بِدُونِ إِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَادِسَةٌ .
وَلَا تَنْسَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ غَايَةَ التَّرَقِّي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَعَادَةِ الْبُيُوتِ ( الْعَائِلَاتِ ) أَنْ يَكُونَ تَكَوُّنُ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَيْنِ فَقَطْ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِيثَاقًا غَلِيظًا عَلَى الْحُبِّ ، وَالْإِخْلَاصِ ، وَالثِّقَةِ ، وَالِاخْتِصَاصِ ، حَتَّى إِذَا مَا رُزِقَا أَوْلَادًا كَانَتْ عِنَايَتُهُمَا مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ لِيَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا ، وَيَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ فِي الْوِفَاقِ ، وَالْوِئَامِ ، وَالْحُبِّ ، وَالْإِخْلَاصِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَابِعَةٌ .
إِذَا أَنْعَمْتَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا وَعَرَفْتَ فَرْعَهَا ، وَأَصْلَهَا تَتَجَلَّى لَكَ هَذِهِ النَّتِيجَةُ ، أَوِ النَّتَائِجُ ، وَهِيَ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَالْحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ فِي بَابِهِ ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَبَّى النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَقْتَنِعُوا بِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَحُولُ دُونَ أَخْذِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِهِ ، وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى كَفَالَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةِ الْأَفْرَادِ مِنَ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ عَاقِرٍ فَيَضْطَرُّ إِلَى غَيْرِهَا لِأَجْلِ النَّسْلِ ، وَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا ، أَوْ مَصْلَحَتِهِمَا مَعًا أَلَّا يُطَلِّقَهَا ، وَتَرْضَى بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلِكًا ، أَوْ أَمِيرًا ، أَوْ تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي سِنِّ الْيَأْسِ وَيَرَى الرَّجُلُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلْإِعْقَابِ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ غَيْرِ وَاحِدَةٍ ، وَكِفَايَةِ أَوْلَادِ كَثِيرِينَ ، وَتَرْبِيَتِهِمْ ، أَوْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِإِحْصَانِهِ
[ ص: 293 ] لِأَنَّ مِزَاجَهُ يَدْفَعُهُ إِلَى كَثْرَةِ الْإِفْضَاءِ وَمِزَاجَهَا بِالْعَكْسِ ، أَوْ تَكُونُ فَارِكًا مِنْشَاصًا ( أَيْ تَكْرَهُ الزَّوْجَ ) ، أَوْ يَكُونُ زَمَنُ حَيْضِهَا طَوِيلًا يَنْتَهِي إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ ، وَيَرَى نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : التَّزَوُّجِ بِثَانِيَةٍ ، أَوِ الزِّنَا الَّذِي يُضِيعُ الدِّينَ ، وَالْمَالَ ، وَالصِّحَّةَ ، وَيَكُونُ شَرًّا عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ ضَمِّ وَاحِدَةٍ إِلَيْهَا مَعَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ اسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِالْمَرَّةِ .
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَدُّدُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَأَنْ تَكْثُرَ فِيهَا النِّسَاءُ كَثْرَةً فَاحِشَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي مِثْلِ الْبِلَادِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ ، وَفِي كُلِّ بِلَادٍ تَقَعُ فِيهَا حَرْبٌ مُجْتَاحَةٌ تَذْهَبُ بِالْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ ، فَيَزِيدُ عَدَدُ النِّسَاءِ زِيَادَةً فَاحِشَةً تَضْطَرُّهُنَّ إِلَى الْكَسْبِ ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجِ الطَّبِيعَةِ ، وَلَا بِضَاعَةَ لِأَكْثَرِهِنَّ فِي الْكَسْبِ سِوَى أَبْضَاعِهِنَّ ، وَإِذَا هُنَّ بَذَلْنَهَا فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ مَا وَرَاءَ بَذْلِهَا مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا كَافِلَ لَهَا إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ نَفْسِهَا ، وَأَوَدِ وَلَدٍ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ ، وَلَاسِيَّمَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَلِ الطُّفُولِيَّةِ كُلِّهَا ، وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ بِوُجُوبِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي يَشْتَغِلْنَ فِي الْمَعَامِلِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعُمُومِيَّةِ ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ مِنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ ، وَالْوُقُوعِ فِي الشَّقَاءِ ، وَالْبَلَاءِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُبِيحُ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ هِيَ ضَرُورَاتٌ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَكَانَ الرِّجَالُ إِنَّمَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي الْغَالِبِ إِرْضَاءً لِلشَّهْوَةِ لَا عَمَلًا بِالْمَصْلَحَةِ ، وَكَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ - جُعِلَ التَّعَدُّدُ فِي الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لَا وَاجِبًا ، وَلَا مَنْدُوبًا لِذَاتِهِ ، وَقُيِّدَ بِالشَّرْطِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، وَأَكَّدَتْهُ تَأْكِيدًا مُكَرَّرًا فَتَأَمَّلْهَا .