المسألة العاشرة
nindex.php?page=treesubj&link=20656_20663إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة ، صارت العزيمة معها من الواجب المخير ; إذ صار هذا المترخص يقال له : إن شئت فافعل العزيمة ، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة ، وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه ، على وزان خصال الكفارة ; فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة .
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج ، فليست الرخصة معها من ذلك الباب ; لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع ، فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق ، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة ، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة ; فذلك بالقصد الثاني ، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة .
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان ، إحداهما في نفس الأمر عادلة ، والأخرى غير عادلة ; فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] .
[ ص: 540 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ممن ترضون من الشهداء .
فإن حكم بأهل العدالة ; أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين ، وإن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر ، وله أجر في اجتهاده ، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين ، فكما لا يقال في الحاكم : إنه مخير بين الحكم بالعدل ، والحكم بمن ليس بعدل ; كذلك لا يقال هنا : إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة .
فإن قيل : كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني ؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
وجاء بعد تقرير الرخصة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
قيل : كما يقال : إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول ، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني ، مع قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف : 189 ] .
وأيضا ; فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه ، مع
[ ص: 541 ] كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة ; فهو تيسير أيضا ورفع حرج .
وأيضا ; فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات ; فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة ، وهو مقتضى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ; ، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات ; فكذلك نقول في محال الرخص : إنها ليست بكليات ، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة .
فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول ، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية ; إن قصده الشارع بالرخصة ; فمن جهة القصد الثاني ، والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20656_20663إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ ، صَارَتِ الْعَزِيمَةُ مَعَهَا مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ; إِذْ صَارَ هَذَا الْمُتَرَخِّصُ يُقَالُ لَهُ : إِنْ شِئْتَ فَافْعَلِ الْعَزِيمَةَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَاعْمَلْ بِمُقْتَضَى الرُّخْصَةِ ، وَمَا عَمِلَ مِنْهُمَا فَهُوَ الَّذِي وَاقِعٌ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ، عَلَى وِزَانِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ ; فَتَخْرُجُ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً .
وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهَا بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ ، فَلَيْسَتِ الرُّخْصَةُ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ; لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ ; أَلَا تَرَى أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَوْجُودٌ مَعَ الْوَاجِبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُعَيَّنِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ ، فَإِذَا فَعَلَ الْعَزِيمَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَرْقٌ ، لَكِنَّ الْعُذْرَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ التَّارِكِ لَهَا إِنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الِانْتِقَالَ إِلَى الرُّخْصَةِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ قَبْلُ أَنَّ الشَّارِعَ إِنْ كَانَ قَاصِدًا لِوُقُوعِ الرُّخْصَةِ ; فَذَلِكَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ وُقُوعُ الْعَزِيمَةِ .
وَالَّذِي يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْحَاكِمُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيِّنَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَادِلَةٌ ، وَالْأُخْرَى غَيْرُ عَادِلَةٍ ; فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : 2 ] .
[ ص: 540 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ .
فَإِنْ حَكَمَ بِأَهْلِ الْعَدَالَةِ ; أَصَابَ أَصْلَ الْعَزِيمَةِ وَأُجِرَ أَجْرَيْنِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْأُخْرَى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَلَهُ أَجْرٌ فِي اجْتِهَادِهِ ، وَيَنْفُذُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُتَحَاكِمِينَ كَمَا يَنْفُذُ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ عَلَى الْمُتَرَخِّصِينَ ، فَكَمَا لَا يُقَالُ فِي الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ ، وَالْحُكْمِ بِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ ; كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُنَا : إِنَّهُ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ شَرْعَ الرُّخَصِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي ؟ وَقَدْ ثَبَتَتْ قَاعِدَةُ رَفْعِ الْحَرَجِ مُطْلَقًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : 78 ] .
وَجَاءَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الرُّخْصَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ الْبَقَرَةِ : 185 ] .
قِيلَ : كَمَا يُقَالُ : إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ التَّنَاسُلُ وَهُوَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ اتِّخَاذِ السَّكَنِ وَنَحْوِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [ الرُّومِ : 21 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [ الْأَعْرَافِ : 189 ] .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ نَفْسِهِ عَنِ الْمُتَرَخِّصِ تَسْهِيلٌ وَتَيْسِيرٌ عَلَيْهِ ، مَعَ
[ ص: 541 ] كَوْنِ الصَّوْمِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ ; فَهُوَ تَيْسِيرٌ أَيْضًا وَرَفْعُ حَرَجٍ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِي الْكُلِّيَّاتِ ; فَلَا تَجِدُ كُلِّيَّةً شَرْعِيَّةً مُكَلَّفًا بِهَا وَفِيهَا حَرَجٌ كُلِّيٌّ أَوْ أَكْثَرِيٌّ أَلْبَتَّةَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : 78 ] .
وَنَحْنُ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ النَّوَادِرِ حَرَجًا وَمَشَقَّةً ; ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ رُخْصَةً تَعْرِيفًا بِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْكُلِّيَّاتِ ; فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَحَالِّ الرُّخَصِ : إِنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّاتٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ جُزْئِيَّاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ .
فَإِذًا الْعَزِيمَةُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُلِّيَّةً هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ ، وَالْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ عَارِضٌ لِتِلْكَ الْكُلِّيَّةِ ; إِنْ قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالرُّخْصَةِ ; فَمِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ الثَّانِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .