[ ص: 44 ] المسألة الخامسة
nindex.php?page=treesubj&link=21858المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين :
من جهة مواقع الوجود .
ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها .
فأما النظر الأول; فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة ، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق ، حتى يكون منعما على الإطلاق ، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون; لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق ، قلت أو كثرت ، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، والركوب ، والنكاح ، وغير ذلك; فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود; إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق ، واللطف ونيل اللذات كثير ، ويدلك على ذلك ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك ، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق ، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص ، قال
[ ص: 45 ] الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=35ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 35 ] ،
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=2ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، وما في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337354حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى .
فإذا كان كذلك; فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى; فهي المفسدة المفهومة عرفا ، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه : إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة ، فمهروب عنه ، ويقال : إنه مفسدة ، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساو; فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله ، فإن خرج عن مقتضى العادات; فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .
[ ص: 46 ] هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية ، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية .
وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ،
nindex.php?page=treesubj&link=21858فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ، فإن تبعها مفسدة أو مشقة ، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه .
وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=21858المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها ، حسب ما يشهد له كل عقل سليم ، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر .
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ، لا قليلا ولا كثيرا ، وإن توهم
[ ص: 47 ] أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك ، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ، ولا منهيا عنه بإطلاق ، بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ، ومنهيا عنه من حيث المفسدة ، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك .
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي; كوجوب الإيمان وحرمة
[ ص: 48 ] الكفر ، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها ، وما أشبه ذلك; فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه ، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها ، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف ، وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمورا به أو مأذونا فيه; لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة ، وكل هذا باطل محض ، بل الإيمان مطلوب بإطلاق ، والكفر منهي عنه بإطلاق ، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان ، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا ، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا .
والثاني : أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا; لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق ، وهو باطل شرعا ، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا ، فمعلوم في الأصول ، وأما بيان الملازمة; فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة ، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة ، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة ، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا ، والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة ، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا ، فقد قيل له : افعل ولا تفعل لفعل واحد ، أي من وجه واحد في الوقوع ، وهو عين تكليف ما لا يطاق .
لا يقال : إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ، ولكن مأذونا فيها; فلا يجتمع الأمر والنهي معا ، فلا يلزم المحظور .
[ ص: 49 ] لأنا نقول : إن هذا لا يطرد في جميع المصالح; فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها ، يصح أن تكون مأمورا بها ، وإن سلم ذلك ، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا ، فإن التخيير مناف لعدم التخيير ، وهما واردان على الفعل الواحد ، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به ، وهو ما أردنا بيانه ، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار ، وهذا ليس كذلك .
فإن قيل : إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل ، وإنما المقصود الخير ، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره ، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله ، ولم يخلق لأجل الشر ، وإن كان واقعا به;كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه ، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه ، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة ، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتآكل ، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار; فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها ، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت : إن الشارع - مع قصده التشريع لأجل المصلحة - لا يقصد وجه المفسدة ، مع أنها لازمة للمصلحة .
وهو أيضا مشير إلى مذاهب
المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع ، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة ، تعالى الله عن ذلك
[ ص: 50 ] علوا كبيرا .
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا في القصد التشريعي ، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي ، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق حسب ما تبين في موضعه ، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة ، فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك ، وإن كان واقعا في الوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة ، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء ، وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه ، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع ، أو عدم الوقوع ، وإنما هذا قول
المعتزلة ، وبطلانه مذكور في علم الكلام ، فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ، لا ملازمة بينهما .
[ ص: 44 ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=21858الْمَصَالِحُ الْمَثْبُوتَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَتَيْنِ :
مِنْ جِهَةِ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ .
وَمِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ بِهَا .
فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ; فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ - مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ هُنَا - لَا يَتَخَلَّصُ كَوْنُهَا مَصَالِحَ مَحْضَةً ، وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ ، وَتَمَامِ عَيْشِهِ ، وَنَيْلِهِ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْصَافُهُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، حَتَّى يَكُونَ مُنَعَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَهَذَا فِي مُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ لَا يَكُونُ; لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصَالِحَ مَشُوبَةٌ بِتَكَالِيفَ وَمَشَاقَّ ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، تَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ تَسْبِقُهَا أَوْ تَلْحَقُهَا; كَالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَاللِّبْسِ ، وَالسُّكْنَى ، وَالرُّكُوبِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ .
كَمَا أَنَّ الْمَفَاسِدَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَفَاسِدَ مَحْضَةٍ مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ; إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يَتْبَعُهَا مِنَ الرِّفْقِ ، وَاللُّطْفِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَثِيرٌ ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وُضِعَتْ عَلَى الِامْتِزَاجِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ ، فَمَنْ رَامَ اسْتِخْلَاصَ جِهَةٍ فِيهَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ، وَبُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِوَضْعِهَا عَلَى الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالتَّمْحِيصِ ، قَالَ
[ ص: 45 ] اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=35وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [ الْأَنْبِيَاءِ : 35 ] ،
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=2لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ الْمُلْكِ : 2 ] ، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337354حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ فَلِهَذَا لَمْ يَخْلُصْ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدٍ جِهَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ شَرِكَةِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا تُفْهَمُ عَلَى مُقْتَضَى مَا غَلَبَ ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ جِهَةَ الْمَصْلَحَةِ فَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا ، وَإِذَا غَلَبَتِ الْجِهَةُ الْأُخْرَى; فَهِيَ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ ذُو الْوَجْهَيْنِ مَنْسُوبًا إِلَى الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ ، فَإِنْ رَجَحَتِ الْمَصْلَحَةُ فَمَطْلُوبٌ ، وَيُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ مَصْلَحَةٌ ، وَإِذَا غَلَبَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ ، فَمَهْرُوبٌ عَنْهُ ، وَيُقَالُ : إِنَّهُ مَفْسَدَةٌ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ عَلَى تَسَاوٍ; فَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ فِي مِثْلِهِ ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَاتِ; فَلَهُ نِسْبَةٌ أُخْرَى وَقِسْمَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ .
[ ص: 46 ] هَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ .
وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي فِيهَا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْخِطَابَ بِهَا شَرْعًا ،
nindex.php?page=treesubj&link=21858فَالْمَصْلَحَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا مَعَ الْمَفْسَدَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ ، فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ شَرْعًا ، وَلِتَحْصِيلِهَا وَقَعَ الطَّلَبُ عَلَى الْعِبَادِ ، لِيَجْرِيَ قَانُونُهَا عَلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ وَأَهْدَى سَبِيلٍ ، وَلِيَكُونَ حُصُولُهَا أَتَمَّ وَأَقْرَبَ وَأَوْلَى بِنَيْلِ الْمَقْصُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنْ تَبِعَهَا مَفْسَدَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ ، فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَطَلَبِهِ .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=21858الْمَفْسَدَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ ، فَرَفْعُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعًا ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ لِيَكُونَ رَفْعُهَا عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ فِي مِثْلِهَا ، حَسَبَ مَا يَشْهَدُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ ، فَإِنْ تَبِعَتْهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ لَذَّةٌ ، فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا غَلَبَ فِي الْمَحَلِّ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُلْغًى فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ ، كَمَا كَانَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ مُلْغَاةً فِي جِهَةِ الْأَمْرِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا هِيَ خَالِصَةٌ غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ ، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، وَإِنَّ تُوُهِّمَ
[ ص: 47 ] أَنَّهَا مَشُوبَةٌ ، فَلَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَغْلُوبَةَ أَوِ الْمَفْسَدَةَ الْمَغْلُوبَةَ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مَا يَجْرِي فِي الِاعْتِيَادِ الْكَسْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى زِيَادَةٍ تَقْتَضِي الْتِفَاتَ الشَّارِعِ إِلَيْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ هُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَعْلُومَةَ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ - أَعْنِي مُعْتَبَرَةً عِنْدَ الشَّارِعِ - لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَأْمُورًا بِهِ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةِ ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْسَدَةِ ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ; كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ
[ ص: 48 ] الْكُفْرِ ، وَوُجُوبِ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ إِتْلَافِهَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; فَكَأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ فِي مَرَاتِبِ التَّكْلِيفِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ مِنْ إِطْلَاقِهَا وَقَطْعِهَا عَنْ نَيْلِ أَغْرَاضِهَا وَقَهْرِهَا تَحْتَ سُلْطَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا لَذَّةَ فِيهِ لَهَا ، وَكَانَ الْكُفْرُ الَّذِي يَقْتَضِي إِطْلَاقَ النَّفْسِ مِنْ قَيْدِ التَّكْلِيفِ ، وَتَمَتُّعَهَا بِالشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ; لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَلْذُوذَةَ وَالْمُخْرِجَةَ عَنِ الْقُيُودِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ مَحْضٌ ، بَلِ الْإِيمَانُ مَطْلُوبٌ بِإِطْلَاقٍ ، وَالْكُفْرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الْإِيمَانِ ، وَجِهَةَ الْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا ، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا عَادَةً وَطَبْعًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا; لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ كُلُّهُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ شَرْعًا ، أَمَّا كَوْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بَاطِلًا شَرْعًا ، فَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ; فَلِأَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ مَثَلًا مُضَادَّةٌ فِي الطَّلَبِ لِلْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ ، وَقَدْ أُمِرَ مَثَلًا بِإِيقَاعِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ مَنْهِيًّا عَنْ إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إِيقَاعِهِ مَعًا ، وَالْجِهَتَانِ غَيْرُ مُنْفَكَّتَيْنِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ ، فَلَا بُدَّ فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِ إِيقَاعِهِ مِنْ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا ، فَقَدْ قِيلَ لَهُ : افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ ، أَيْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي الْوُقُوعِ ، وَهُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ .
لَا يُقَالُ : إِنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا ، وَلَكِنْ مَأْذُونًا فِيهَا; فَلَا يَجْتَمِعُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا ، فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْظُورُ .
[ ص: 49 ] لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْذُونًا فِيهَا ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ ، فَالْإِذْنُ مُضَادٌّ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا ، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مُنَافٍ لِعَدَمِ التَّخْيِيرِ ، وَهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ ، فَوُرُودُ الْخِطَابِ بِهِمَا مَعًا خِطَابٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ إِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَاطَبِ بِهِ ، وَهُوَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ بِأَنْ يُصَلَّى فِي غَيْرِ الدَّارِ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ مُشِيرٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَيْرُ ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا مُمْتَزِجًا خَيْرُهُ بَشَّرِّهِ ، فَالْخَيْرُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ ، وَلَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ الشَّرِّ ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِهِ;كَالطَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذَا سَقَى الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْمُرَّ الْبَشِعَ الْمَكْرُوهَ ، فَلَمْ يَسْقِهِ إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ ، بَلْ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالرَّاحَةِ ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ ، إِنَّمَا قَصْدُهُ بِذَلِكَ جَلْبُ الرَّاحَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ; فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابِهَا ، فَمَا تَقَدَّمَ شَبِيهٌ بِهَذَا مِنْ حَيْثُ قُلْتُ : إِنَّ الشَّارِعَ - مَعَ قَصْدِهِ التَّشْرِيعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ - لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ ، مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ .
وَهُوَ أَيْضًا مُشِيرٌ إِلَى مَذَاهِبِ
الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشُّرُورَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْوُقُوعِ ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ
[ ص: 50 ] عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْدِ الْخَلْقِيِّ التَّكْوِينِيِّ ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْقَصْدِ التَّشْرِيعِيِّ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ بِإِطْلَاقٍ حَسَبَ مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَكُلُّ مَا شُرِعَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ ، فَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي الْوُجُودِ فَبِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَعَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، وَحُكْمُ التَّشْرِيعِ أَمْرٌ آخَرُ لَهُ نَظَرٌ وَتَرْتِيبٌ آخَرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَضَعَهُ ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةَ الْوُقُوعِ ، أَوْ عَدَمِ الْوُقُوعِ ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَبُطْلَانُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، فَالْقَصْدُ التَّشْرِيعِيُّ شَيْءٌ وَالْقَصْدُ الْخُلُقِيُّ شَيْءٌ آخَرُ ، لَا مُلَازَمَةَ بَيْنِهِمَا .