[ ص: 54 ] المسألة السادسة
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين : دنيوية ، وأخروية ، وتقدم الكلام على الدنيوية ، اقتضى الحال الكلام في
nindex.php?page=treesubj&link=30394_30433المصالح والمفاسد الأخروية ، فنقول : إنها على ضربين :
أحدهما : أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر; كنعيم أهل الجنان ، وعذاب أهل الخلود في النيران ، أعاذنا الله من النار ، وأدخلنا الجنة برحمته .
والثاني : أن تكون ممتزجة ، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين ، في حال كونه في النار خاصة ، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول ، وهذا كله حسب ما جاء في الشريعة; إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال ، وإنما تتلقى أحكامها من السمع .
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر; لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ، ولا محل الإيمان ، وتلك مصلحة ظاهرة .
[ ص: 55 ] وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم ، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة; فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال ، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة ، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما ، حاصلة له مع التعذيب ، فهي تنفس عنه من كرب النار ، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة ، من استقراها ألفاها .
وأما كون الأول محضا; فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=75لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=74لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] .
وهو أشد ما هنالك ، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة .
وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا
[ ص: 56 ] مفسدة; كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=45إن المتقين في جنات وعيون nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=46ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=48لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 45 - 48 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=73سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] .
إلى غير ذلك مما هو معلوم .
وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة : " أنت رحمتي " ، وفي النار : " أنت عذابي " ; فسمى هذه بالرحمة مبالغة ، وهذه بالعذاب مبالغة .
فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض ، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض ، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين ، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها; كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها ، وإذا كانت
[ ص: 57 ] دركات الجحيم - أعاذنا الله منها - بعضها أشد; فالذي دون الأشد أخف من الأشد ، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما .
وأيضا; فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف ، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه ، وإذا تصورت الخفة - ولو بنسبة ما - فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب ، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29468الجزاء على قدر العمل ، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة ، كان الجزاء على تلك النسبة ، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره ، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي ، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة ، وهذا معنى ممازجة المفسدة ، فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد .
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه ، هذا مقتضى نقل الشريعة ، نعم العقل لا يحيل ذلك; فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول ، كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ، ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=75لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ]
[ ص: 58 ] فلا حالة هنالك يستريحون إليها وإن قلت ، كيف وهي دار العذاب ؟ ! عياذا بالله منها .
وما جاء في حرمان الخمر; فذلك راجع إلى معنى المراتب ، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها ، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد ، أما المخرج إلى الضحضاح; فأمر خاص ، كشهادة
خزيمة ، وعناق
أبي بردة ، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية; غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات ، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى .
وذلك أن المراتب - وإن تفاوتت - لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ، ومعنى هذا أنك إذا قلت : فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله ، فإذا قلت : وفلان فوقه في العلم ، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ، ولو على وجه ما ، فكذلك إذا قلت : مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء ، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ، ولا غضا من المرتبة ، بحيث يداخله ضده ، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي
[ ص: 59 ] لا نقص فيه ، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم . كل في العذاب لا يداخله راحة ، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض .
ولأجل ذلك لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير دور
الأنصار; أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337470خير دور الأنصار بنو النجار ، ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، ثم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337471وفي كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد ، من حيث كانت أفعل التفصيل قد تستعمل
[ ص: 60 ] على ذلك الوجه ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=16بل تؤثرون الحياة الدنيا nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 16 ] ، ونحو ذلك ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور
الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ، ولو قصد ذلك; لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح ، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره : فلحقنا
nindex.php?page=showalam&ids=228سعد بن عبادة ، فقال : ألم تر أن نبي الله خير
الأنصار; فجعلنا أخيرا ؟ فقال : " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ؟ " لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا ، وكذلك يجري حكم
nindex.php?page=treesubj&link=28973التفضيل بين الأشخاص ، وبين الأنواع ، وبين الصفات ، وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .
[ ص: 61 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=55ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337472المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير .
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع ، وهذا معنى حسن جدا ، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة; كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية ، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس ، وبالله التوفيق .
[ ص: 54 ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
لَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : دُنْيَوِيَّةٍ ، وَأُخْرَوِيَّةٍ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ ، اقْتَضَى الْحَالُ الْكَلَامَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30394_30433الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، فَنَقُولُ : إِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لَا امْتِزَاجَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ بِالْآخَرِ; كَنَعِيمِ أَهْلِ الْجِنَانِ ، وَعَذَابِ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ ، وَأَدْخَلَنَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُمْتَزِجَةً ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ، فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي النَّارِ خَاصَّةً ، فَإِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ رَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا كُلُّهُ حَسَبَ مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ; إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَجَالٌ ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى أَحْكَامَهَا مِنَ السَّمْعِ .
أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي مُمْتَزِجًا فَظَاهِرٌ; لِأَنَّ النَّارَ لَا تَنَالُ مِنْهُمْ مَوَاضِعَ السُّجُودِ ، وَلَا مَحَلَّ الْإِيمَانِ ، وَتِلْكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ .
[ ص: 55 ] وَأَيْضًا فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ، وَأَعْمَالُهُمْ لَمْ تَتَمَحَّضْ لِلشَّرِّ خَاصَّةً; فَلَا تَأْخُذُهُمُ النَّارُ أَخْذَ مَنْ لَا خَيْرَ فِي عَمَلِهِ عَلَى حَالٍ ، وَهَذَا كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، ثُمَّ الرَّجَاءُ الْمُعَلَّقُ بِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ رَاحَةٌ مَا ، حَاصِلَةٌ لَهُ مَعَ التَّعْذِيبِ ، فَهِيَ تُنَفِّسُ عَنْهُ مِنْ كُرَبِ النَّارِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ ، مَنِ اسْتَقْرَاهَا أَلْفَاهَا .
وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَحْضًا; فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=75لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [ الزُّخْرُفِ : 75 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [ الْحَجِّ : 19 ] الْآيَةَ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=74لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [ طه : 74 ] .
وَهُوَ أَشَدُّ مَا هُنَالِكَ ، إِلَى سَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ .
وَفِي الْجَنَّةِ آيَاتٌ أُخَرُ وَأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا عَذَابَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا
[ ص: 56 ] مَفْسَدَةَ; كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=45إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=46ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=48لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [ الْحِجْرِ : 45 - 48 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=73سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [ الزُّمَرِ : 73 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ : " أَنْتِ رَحْمَتِي " ، وَفِي النَّارِ : " أَنْتِ عَذَابِي " ; فَسَمَّى هَذِهِ بِالرَّحْمَةِ مُبَالَغَةً ، وَهَذِهِ بِالْعَذَابِ مُبَالَغَةً .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي النَّارِ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ ، كَمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَنَّ فِيهَا دَرَجَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ ، وَجَاءَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْ يُحْرَمُ بَعْضَ نَعِيمِهَا; كَالَّذِي يَمُوتُ مُدْمِنَ خَمْرٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، وَإِذَا كَانَتْ
[ ص: 57 ] دَرَكَاتُ الْجَحِيمِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا - بَعْضُهَا أَشَدُّ; فَالَّذِي دُونَ الْأَشَدِّ أَخَفُّ مِنَ الْأَشَدِّ ، وَالْخِفَّةُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ وَصْفُ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُحَصِّلُ مَصْلَحَةً مَا .
وَأَيْضًا; فَالْقَدْرُ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَذَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُتَوَهَّمُ فَوْقَهُ خَفِيفٌ ، كَمَا أَنَّهُ شَدِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ ، وَإِذَا تُصُوِّرَتِ الْخِفَّةُ - وَلَوْ بِنِسْبَةٍ مَا - فَهِيَ مَصْلَحَةٌ فِي ضِمْنِ مَفْسَدَةِ الْعَذَابِ ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29468الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ ، وَإِذَا كَانَ عَمَلُ الطَّاعَةِ قَلِيلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُتْبَةَ آخِرِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ كَرُتْبَةِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ وَدَأَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ عُمُرَهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ عَمَلِ الْأَوَّلِ السَّبَبِيِّ ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْآخِرَةِ نَعِيمًا كَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمُخَالَفَةِ ، وَهَذَا مَعْنَى مُمَازَجَةِ الْمَفْسَدَةِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقِسْمَانِ مَعًا قِسْمٌ وَاحِدٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْمَنْقُولِ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ مُمْتَزِجَةَ النَّعِيمِ بِالْعَذَابِ ، وَلَا أَنَّ فِيهَا مَفْسَدَةً مَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، هَذَا مُقْتَضَى نَقْلِ الشَّرِيعَةِ ، نَعَمِ الْعَقْلُ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ; فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي النَّارِ إِنَّ فِيهَا لِلْمُخَلَّدِينَ رَحْمَةً تَقْتَضِي مَصْلَحَةً مَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=75لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [ الزُّخْرُفِ : 75 ]
[ ص: 58 ] فَلَا حَالَةَ هُنَالِكَ يَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهَا وَإِنْ قَلَّتْ ، كَيْفَ وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ ؟ ! عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا .
وَمَا جَاءَ فِي حِرْمَانِ الْخَمْرِ; فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَرَاتِبِ ، فَلَا يَجِدُ مَنْ يُحْرَمُهَا أَلَمًا بِفَقْدِهَا ، كَمَا لَا يَجِدُ الْجَمِيعُ أَلَمًا بِفَقْدِ شَهْوَةِ الْوَلَدِ ، أَمَّا الْمُخْرَجُ إِلَى الضَّحْضَاحِ; فَأَمْرٌ خَاصٌّ ، كَشَهَادَةِ
خُزَيْمَةَ ، وَعَنَاقِ
أَبِي بُرْدَةَ ، وَلَا نَقْضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأُصُولِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ; غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ هُنَا فِي وَجْهِ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ ، لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرَاتِبَ - وَإِنَّ تَفَاوَتَتْ - لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفَاوُتِهَا نَقِيضٌ وَلَا ضِدٌّ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلَانٌ عَالِمٌ فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالْعِلْمِ وَأَطْلَقْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَابُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ ، فَإِذَا قُلْتَ : وَفُلَانٌ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ حَازَ رُتْبَةً فِي الْعِلْمِ فَوْقَ رُتْبَةِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ ، وَلَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ : مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعُلَمَاءِ ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ نَقْصًا مِنَ النَّعِيمِ ، وَلَا غَضًّا مِنَ الْمَرْتَبَةِ ، بِحَيْثُ يُدَاخِلُهُ ضِدُّهُ ، بَلِ الْعُلَمَاءُ مُنَعَّمُونَ نَعِيمًا لَا نَقْصَ فِيهِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوْقَ ذَلِكَ فِي النَّعِيمِ الَّذِي
[ ص: 59 ] لَا نَقْصَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَذَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ . كُلٌّ فِي الْعَذَابِ لَا يُدَاخِلُهُ رَاحَةٌ ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَيْرِ دُورِ
الْأَنْصَارِ; أَجَابَ بِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَرْتِيبِهِمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337470خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337471وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ الضِّدِّ ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَفْعَلُ التَّفْصِيلِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ
[ ص: 60 ] عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=16بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ الْأَعْلَى : 16 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَكُنْ تَفْضِيلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْضَ دُورِ
الْأَنْصَارِ عَلَى بَعْضٍ تَنْقِيصًا بِالْمَفْضُولِ ، وَلَوْ قُصِدَ ذَلِكَ; لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الذَّمِّ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فَإِنَّ فِي آخِرِهِ : فَلَحِقَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=228سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ خَيَّرَ
الْأَنْصَارَ; فَجَعَلَنَا أَخِيرًا ؟ فَقَالَ : " أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مَنِ الْأَخْيَارِ ؟ " لَكِنَّ التَّقْدِيمَ فِي التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَزِيَّةِ ، وَلَا يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُؤَخَّرِ بِالضِّدِّ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، وَكَذَلِكَ يَجْرِي حُكْمُ
nindex.php?page=treesubj&link=28973التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ ، وَبَيْنَ الْأَنْوَاعِ ، وَبَيْنَ الصِّفَاتِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ الْبَقَرَةِ : 253 ] .
[ ص: 61 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=55وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [ الْإِسْرَاءِ : 55 ] .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337472الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ تَرْتِيبَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ النَّوْعِ لَا يُمْكِنُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُ الْأَشْخَاصِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْصَافِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ جِدًّا ، مَنْ تَحَقَّقَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ مُعْضِلَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ; كَالتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ ، الَّتِي زَلَّتْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهَا أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .