الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نهاية العام...دروس ووقفات

نهاية العام...دروس ووقفات

نهاية العام...دروس ووقفات

الخطبة الأولى:

الحمد لله مقدِّر المقدور، ومصرِّف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، نحمده تعالى ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وهو العفو الغفور.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمرور الليالي والأيام، والشهور والأعوام، فكم من مستقبل يوماً لا يستكلمه، ومنتظر غداً لا يبلغه.

عباد الله: تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة، وإطلالة عام قادم، بعد أن أفلت شمسُ عام مضى بأفراحه وأتراحه، قد قوِّضت خيامه، وتصرَّمت أيامه.

ما أسرع مرور الليالي والأيام! وتصرُّم الشهور والأعوام! والموفق الملهم من أخذ من ذلك دروساً وعبراً، واستفاد منه مُدَّكَراً ومُزدَجَراً، وتزود من الممرِّ للمقرِّ؛ والكيس المُسَدَّد مَن حاذَرَ الغفلة عن الدار الآخرة، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، واللهَ نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين، وصلاحاً لأحوالهم، وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين.

إخوة الإسلام: حديث المناسبة في مطلع عام هجري ما سطَّره تاريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظمية، لها مكانتها الإسلامية، وآثارها البليغة في عزِّ هذه الأمة وقوتها، وصلاح شريعتها لكل زمان ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد، في المعاش والمعاد.

معاشر المسلمين: ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمة الجديرة بالإشادة والتذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد؛ علها تكون سبباً في شحذ الهمم، واستنهاض العزمات، للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحاملة على الاتعاظ والاعتبار، ووقفات المحاسبة الدقيقة، ونظرات المراجعة المستديمة؛ تجريداً للمواقف، وإصلاحاً للمناهج، وتقويماً للمسيرة.

أول هذه الإشارات الحدث الذي غير مجرى التاريخ، الحدث الذي حمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء.

إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقاً للنصر والعزة ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيساً في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.

في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات، والدروس والعبر البالغات، ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم، وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق؛ لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها؛ إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها، فما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا حين خضعوا لرب العالمين.

وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين.

إذا تحقق ذلك، وتذكرت الأمة هذه الحقائق، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به، والدرع الحصين الذي تتقي به الهجمات والصراع العالمي، فالقوة لله جميعاً، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

أمة التوحيد: أكدت دروس الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة، أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد، وتفكك المجتمع، وهزيمة الأمة.

والمتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التاريخ؛ يجد أن مرد ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة، والتساهل في جانب الثوابت المعنوية، مهما تقدمت الوسائل المادية.

وقوة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن صادقاً في الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والاتكال عليه، ولا سيما في الشدائد.

ينظر أبو بكر رضي الله عنه إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار، فيقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيجيبه صلى الله عليه وسلم -جواب الواثق بنصر الله-: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) ما أعظم لطف الله بعباده، ونصره لأوليائه!

وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة: أنه مهما احلولكت الظلمات فوعد الله آت لا محالة: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} [يوسف:110].

أمة الإسلام: ودرس آخر من دروس الهجرة النبوية يتجلى في أن عقيدة التوحيد هي الرابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القومية، والتمايزات القبلية، والعلاقات الحزبية.

إن طريق الأمة للتبجيل والتكريم مدين بولائها لعقيدتها، وارتباطها بمبادئها.

يُقال ذلك وفي الأمة في أعقاب الزمن منهزمون كُثُر أمام تيارات إلحادية وافدة، ومبادئ عصرية زائفة، تُرفَع شعارات مصطنعة، وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذل والصَّغَار، والشقاء والبوار؛ فأهواء في الاعتقاد، ومذاهب في السياسة، ومشارب في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلف المهين، والتمزق المشين.

وفي خضم هذا الواقع المزري يحق لنا أن نتساءل بحرقة وأسى: أين دروس الهجرة في التوحيد والوحدة؟!

أي نظام راعى حقوق الإنسان، وكرَّمه أحسن تكريم، وكفل حقوقه كهذا الدين القويم؟!

هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التضحية، ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريته وحقوقه يجرُّ إلى تذكر أحوال إخوان لنا في بقاع شتى، حلت بهم مصائب ونكبات.

علَّ دروس الهجرة النبوية تحرك نخوة، وتشحذ همة، وتنهض عزماً، وما ذلك على الله بعزيز.

إخوة الإيمان: في مجال تربية الشباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة، يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة ونصرة صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام، ما يجلي أثر الشباب في الدعوة، ودورهم في نصرة الدين.

وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ما يجلي دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها.

أيها المؤمنون: وإشارة أخرى إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتثبت للعالم استقلال هذه الأمة بمنهجها وتاريخها وحضارتها، قضية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها التوقيت والتاريخ بالهجرة النبوية.

وكم لهذه القضية من مغزىً عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به؟! في الوقت الذي فُتن فيه بعض أبنائها بأعدائهم وانسلخوا من هويتهم، وتنكروا لثوابتهم.

ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم، فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم.

فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا؛ لكنه التقليد والتبعية، والمجاراة والانهزامية، والتشبه الأعمى الذي حذر صلى الله عليه وسلم أمته منه بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود.

أيها المسلمون: وثالث هذه الإشارات حدث عظيم في شهر الله المحرم، فيه درس بليغ على نصرة الله لأوليائه، وانتقامه من أعدائه مهما طاول الزمان، إنه حدث قديم؛ لكنه بمغزاه متجدد عبر الأمصار والأعصار.

إنه يوم انتصار نبي الله وكليمه موسى عليه السلام، وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعبر والعظات والفكر للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان؟! فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النصر الخالدة، وإن في الحوادث لَعِبَراً، وإن في التاريخ لَخَبَراً، وإن في القصص والأخبار لَمُدَّكَراً ومُزْدَجَراً: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف:111].

الخطبة الثانية:

عباد الله: تمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، ورمز قوتكم، وسبب نصركم.

عباد الله: وقفة رابعة مع فاتحة شهور العام؛ شهر الله المحرم، أعظم شهور الله، من أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى وقومه على فرعون وملئه.

الصيام فيه من أفضل الصيام في الحديث: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم) رواه مسلم.

وأفضل أيام هذا الشهر يوم عاشوراء، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟) قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم)، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه) متفق عليه.

وسُئل صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه مسلم.

وقد عزم صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً قبله مخالفة لأهل الكتاب، فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع) رواه مسلم. فيستحب للمسلم أن يصوم ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفة لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة