الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مسائل جامعة في قنوت النوازل

السؤال

ما المراد بالنازلة في قنوت النوازل؟ وما صيغة الدعاء فيها؟ وما مدتها؟ وفي أي صلاة يُشرع القنوت؟ وهل يُشرع لكل إمام أن يقنت إذا رأى وقوع نازلة، أم ينبغي أن يكون ذلك برأيٍ واجتهادٍ جماعيٍّ من أئمة البلد، أو من وليّ الأمر، أو من ينوب عنه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالمراد بالنوازل: المصائب الشديدة، والوقائع العظيمة التي تنزل بالمسلمين أو بعضهم -كحال الفتن، والحروب، والأوبئة-، فيشرع عند حدوثها القنوت في الصلاة.

قال النووي في شرح مسلم: الصحيح المشهور أنه إن نزلت نازلة ‌-كعدو، ‌وقحط، ووباء، وعطش، وضرر ظاهر في المسلمين، ونحو ذلك-، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة، وإلا فلا. اهـ.

وقال ابن حبان في صحيحه: إنما يقنت في الصلوات عند حدوث حادثة، مثل ظهور أعداء الله على المسلمين، أو ظلم ظالم ظلم المرء به، أو تعدى عليه، أو أقوام أحب أن يدعو لهم، أو أسرى من المسلمين في أيدي المشركين، وأحب الدعاء لهم بالخلاص من أيديهم، أو ما يشبه هذه الأحوال. اهـ.

وأما صيغة الدعاء، فلم يرد في ذلك نص ملزم، وإنما يختار الإمام من ألفاظ الدعاء وصيغه ما يناسب الحال، ونوع النازلة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: والقول الثالث: أن النبي قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنونًا عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، فإن ‌عمر -رضي الله عنه-: لما حارب النصارى، قنت عليهم القنوت المشهور: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب... إلى آخره.
وهو الذي جعله بعض الناس سنّة في قنوت رمضان، وليس هذا القنوت سنّة راتبة، لا في رمضان، ولا غيره، بل ‌عمر قنت ‌لما ‌نزل ‌بالمسلمين ‌من ‌النازلة، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولًا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده، ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده.
فسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين تدل على شيئين:
أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، ليس بسنّة دائمة في الصلاة.
الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبًا، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه. كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولًا، وثانيًا. وكما دعا ‌عمر، وعلي -رضي الله عنهم- لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت، ودعا بدعاء يناسب مقصوده.
اهـ.

وقال في موضع آخر: القنوت ‌يكون ‌عند ‌النوازل، وأن الدعاء في القنوت ليس شيئًا معينًا، ولا يدعو بما خطر له، بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت، كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود، كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب؛ فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود. فهذا هو الذي جاءت به سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنّة خلفائه الراشدين. اهـ.

وينبغي للإمام ألا يشق على المصلين بطول الدعاء، بل يدعو دعاء يسيرًا، فقد سئل أنس -رضي الله تعالى عنه-: أقَنَتَ النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم. فقيل له: أَوَقَنَتَ قبل الركوع؟ قال: بعد ‌الركوع ‌يسيرًا.

قال ابن رجب في فتح الباري: قوله: "يسيرا" يحتمل أن يعود إلى القنوت، فيكون المراد: ‌قنت ‌قنوتًا ‌يسيرًا، ويحتمل أنه يعود إلى زمانه، فيكون المعنى: قنوته زمانًا يسيرًا. اهـ. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى: 142237.

وأما مدة الدعاء، فالأصل أن يدعو حتى تنكشف النازلة، أو تقضى الحاجة التي من أجلها قَنَتَ. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بعد الركعة في صلاة شهرًا إذا قال: سمع الله لمن حمده، يقول في قنوته: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم نَجِّ سلمة بن هشام، اللهم نَجِّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نَجِّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَرَ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بَعْدُ. فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم. قال: فقيل: وما ‌تراهم ‌قد ‌قدموا؟ رواه مسلم.

قال ابن حبان في صحيحه تعليقًا على هذا الحديث: في هذا الخبر بيان واضح أن القنوت إنما يقنت في الصلوات عند حدوث حادثة ... فإذا عدم مثل هذه الأحوال لم يقنت حينئذ في شيء من صلاته، إذ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين، ويدعو للمسلمين بالنجاة، فلما أصبح يومًا من الأيام ترك القنوت، فذكر ذلك أبو هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما تراهم قد قدموا"، ففي هذا أبين البيان على صحة ما أصّلناه. اهـ.

وبوَّب عليه ابن خزيمة في صحيحه فقال: ‌‌باب ترك القنوت عند زوال الحادثة التي لها يقنت، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك القنوت بعد شهر لزوال تلك الحادثة التي كان لها يقنت، لا نسخًا للقنوت، ولا كما توهم من قال إنه لا يقنت أكثر من شهر. اهـ.

وقال ابن القيم في زاد المعاد: إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان ‌قنوته ‌لعارض، فلما زال ترك القنوت. اهـ. وانظر الفتوى: 18211.

فإن امتد زمان النازلة، واستمر طويلًا، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه حينئذ يدعو شهرًا ثم يترك. وذهب بعضهم إلى أنه يقنت أحيانًا، ويترك أحيانًا، إلى أن تزول.

والذي يظهر لنا أن الأمر في هذا واسع، فيسع المرء أن يستمر في القنوت إلى أن ينكشف الضرّ، أو تُقضى الحاجة التي من أجلها قنت، ما بقي الأمر عارضًا ولم يستقر ويزول عنه وصف النازلة.

ويسعه أن يقنت أحيانًا ويترك أحيانًا، خاصة مع تغير الحال: شدة وضعفًا، صعودًا وهبوطًا.

ويسعه أن يقنت شهرًا ثم يترك، لحديث أنس: قَنَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه، يقال لهم: القراء. رواه البخاري ومسلم.

والاقتصار على الشهر هو ما نُقل عن الشيخ ابن عثيمين. وهذا إن كان على سبيل الاختيار والترجيح، فالأمر واسع -كما ذكرنا-.

وأما إن كان على سبيل منع الزيادة على الشهر، فلا يظهر؛ لأنه قد ثبت أكثر من الشهر في الحادثة نفسها، فروى البخاري في صحيحه عن أنس: فدعا ‌عليهم ‌أربعين ‌صباحًا.

وعلى أية حال؛ فترك القنوت لا يعني ترك الدعاء، بل على المسلم أن يستمر على الدعاء عمومًا، وخاصة في مواطن الإجابة -كالسحر، وعقب الصلاة، وبين الأذان والإقامة، وحتى داخل الصلوات في السجود، وبعد التشهد-.

وأما الصلاة التي يشرع فيها، فالروايات الواردة في ذلك متنوعة، ففي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في كل الصلوات، وفي بعضها أنه قنت في الفجر، وفي بعضها أنه قنت في المغرب والفجر، وفي بعضها أنه قنت في الظهر والعشاء والفجر. وراجع في ذلك الفتوى: 3038.

فالأمر في ذلك واسع، فله أن يقنت في بعض الفرائض دون بعض، أو فيها كلها، أو في واحدة منها، وأكثر ذلك في صلاة الفجر.

قال ابن حبان في صحيحه: فإذا كان بعض ما وصفنا موجودًا، قنت المرء في صلاة واحدة، أو الصلوات كلها، أو بعضها دون بعض، بعد رفعه رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من صلاته. اهـ.

وقال ابن القيم في زاد المعاد: لم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس. وقد ذكره مسلم عن البراء.
وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه. ورواه أبو داود.
وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر؛ بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل؛ ولاتصالها بصلاة الليل؛ وقربها من السحر وساعة الإجابة؛ وللتنزل الإلهي؛ ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار
. اهـ.

وأما من يقنت من المصلين، فالمشهور في مذهب الحنابلة أنه لا يقنت إلا السلطان، أو الإمام الأعظم وحده. وفي رواية ثانية: السلطان أو نائبه. وفي رواية ثالثة: يقنت غيره بإذنه. وفي رواية رابعة: كل إمام جماعة. وفي رواية خامسة: كل مصلٍّ.

قال ابن قدامة في المغني: فإن نزل بالمسلمين نازلة، فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح. نص عليه أحمد ... ولا ‌يقنت ‌آحاد ‌الناس. اهـ.

وقال ابن مفلح الحفيد في المبدع: (إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة)، هي الشديدة من شدائد الدهر؛ (فللإمام)؛ أي: ‌يستحب ‌للإمام ‌الأعظم؛ لأنه عليه السلام هو الذي قنت، فيتعدى الحكم إلى من يقوم مقامه. وعنه: ونائبه. وعنه: بإذنه. وعنه: وإمام جماعة. وعنه: كل مصل. اهـ.

وهذه الرواية الأخيرة هي ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال -كما في الفتاوى الكبرى-: إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، فيقنت ‌كل ‌مصلّ في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة. اهـ.

واختاره من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين. ولكنه نبَّه على أهمية ضبط الأمر العام من حيث الحكم بكون هذه الحادثة المعينة نازلة تستدعي القنوت، وذلك بالرجوع إلى أهل العلم، وأولي الأمر من الجهات المسؤولة، وذلك تجنبًا للاضطراب والتذبذب.

قال الشيخ -كما في مجموع فتاويه ورسائله-: فقهاء الحنابلة يقولون في المشهور من مذهب الإمام أحمد: إن القنوت خاص بإمام المسلمين دون غيره، إلا من وكل إليه الإمام ذلك فإنه يقنت؛ يعني أنهم لا يرون القنوت لكل إمام مسجد ولكل مصل وحده...
ولكن القول الراجح: أنه يقنت الإمام العام الذي هو رئيس الدولة، ويقنت أيضاً غيره من أئمة المساجد، وكذلك من المصلين وحدهم، إلا أني أحب أن يكون الأمر منضبطاً بحيث لا يصلح لكل واحد من الناس أن يقوم فيقنت بمجرد أن يرى أن هذه نازلة، وهي قد تكون نازلة في نظره دون حقيقة الواقع، فإذا ضبط الأمر وتبين أن هذه نازلة حقيقية تستحق أن يقنت المسلمون لها، ليشعر المسلم بأن المسلمين في كل مكان أمة واحدة، يتألم المسلم لأخيه ولو كان بعيدًا عنه، ففي هذه الحال نقول: إنه يقنت كل إمام، وكل مصل ولو وحده ... المهم عندي أن تكون الأمور منضبطة، وأن لا يذهب كل إنسان إلى رأيه بدون مشاورة أهل العلم ومن لهم النظر في هذه الأمور؛ لأن الشيء إذا كان فوضى تذبذب الناس واشتبه الأمر على العامة، لكن إذا ضبط وصار له جهة معينة تستشار في هذا الأمر كان هذا أحسن؛ هذا بالنسبة للأمر المعلن الذي يكون من أئمة المساجد مثلاً، أما الشيء الخاص الذي يفعله الإنسان في نفسه، فهذا أمر يرجع إلى اجتهاده، فمتى رأى أن في المسلمين نازلة تستحق أن يقنت لها فليقنت، ولا حرج عليه في ذلك
. اهـ.

وقال في «فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام»: هل هذا في كل مصيبة نزلت؟ لا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت على العرب الذين حصل منهم ما حصل، كذلك أيضًا في الأحزاب نزل بالمسلمين نازلة عظيمة، وصفها الله تعالى بقوله: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا}.
ولم يقنت في بدر كان له عريش يدعو الله فيه لا في الصلاة، وعليه؛ فليس كل نازلة يقنت لها.
ثم القنوت لمن؟ هل كل واحد يقنت؟ فيه أقوال للعلماء: المذهب أنه لا يقنت إلا الإمام الأعظم فقط ... يرى بعض أهل العلم أن القنوت إذا نزلت بالمسلمين نازلة مشروع لكل مصلّ حتى الإنسان في بيته يصلي الفريضة يقنت، وهذا قد يقال: إنه وجيه إذا قنت الإنسان في بيته؛ لأنه لا يظهر فيه مخالفة ولي الأمر، أما أن يقنت في مسجده لكونه إمامًا دون إذن، فهذا يؤدي إلى الفوضى، ولو فتح الباب لكان كل واحد يعتقد أن هذه النازلة نازلة عظمى، تحتاج إلى قنوت فيقنت، ثم لو فتح الباب صار بعض الناس يقنت وبعض الناس لا يقنت، فماذا يقول العامة؟ يقول العامة في الذي يقنت: هذا هو المؤمن حقًا الذي في قلبه غيرة على المسلمين، والآخر: اتركه؛ ما في قلبه غيرة ميت. وهذا معناه: القدح في بعض أئمة المسلمين
. اهـ.

وهذا التفصيل الذي اختاره الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- حسن وجيه، وبه تنضبط الأمور.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني