القرآن والاستراتيجية الثقافية الاجتماعية للإقناع
إذا كان التخوف أو التهديـد يثيـر في الفرد الحاجة إلى الأمن أو تجنب الحرمان من تلبية حاجيات أخرى؛ بوصفها دوافع للفرد تدفعه للاستجابة السلوكية التي تلبي حاجاته، فإن المدخل الثاني للإقناع يركز على العلاقات الاجتماعية، ودافعية الانتماء، وحرص الفرد على تقدير الجميع له، بحيث تجعله يتجنب السـلوك الذي لا ترضى عنه الجماعة، ويستجيب إلى السلوك الذي يتوافق مع المعايير الاجتماعية، التي تتمثل في القيم والتقاليد والأعراف التي تحدد معايير السلوك لدى الجماعة والمجتمع وخصائصه الثقافية.
وهذه المعايير والقواعد والضوابط تمثل بالنسبة للقائم بالاتصال -في عملية الإقـناع- مؤشرات لاتجاهات التأييد أو المعارضة، القبول أو الرفض، أو بصفة عامة قبول التوصـيات أو رفضها في الرسـالة الإقناعية، وهذا مما يؤكد أهمية احتواء الرسالة على الرموز التي تتفق مع هـذه القواعد والمعايير والضوابط، بحيث ترسم التوقعات بأنماط السلوك، كما ترسم للملتقي حدود الاتفاق أو الاختلاف مع هـذه
[ ص: 84 ] القواعد والمعايير والضوابط، وبالتالي التوقعات بالثواب والعقاب الذي يتمثل في القبول الاجتماعي من الجماعة أو المجتمع
[1] .
إن ما تتطلبه استراتيجية ثقافية اجتماعية فعالة هـو أن تحدد رسائل الإقناع للفرد قواعد السلوك الاجتماعي أو المتطلبات الثقافية التي تحكم أنشطة العمل، التي يحاول رجل الإعلام أن يحدثها. وإذا كانت التحديات موجودة فعلا، تصبح المهمة هـي عملية إعادة تحديد هـذه المتطلبات.
وفي القرآن الكريم اقترنت هـذه الاستراتيجية بمعجزات الرسل عليهم السلام؛ حيث كانت هـذه المعجزات تتفق مع القيم والعادات والأعراف التي كانت سائدة في مجتمع كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان
موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار، وحيرت كل السحرة، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار.
[ ص: 85 ]
وأما
عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هـو في قبره رهين إلى يوم التناد.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان البلغاء والفصحاء وتجاريد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل ، لو اجتمعت الإنـس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا، وإن كان بعضهم لبعض ظهيـرا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا
[2] .
ففي قصة
سيدنا موسى عليه السلام ،
يقول الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=56 ( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=57قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=58فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=59قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=60فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله [ ص: 86 ] كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=62فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63قالوا إن هـذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=64فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=67فأوجس في نفسه خيفة موسى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=68قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=70فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هـارون وموسى ) (طه:56-70) .
يقول الله تعالى مخبرا عن
فرعون : إنه قال
لموسي حين أراه الآية الكبرى؛ وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، قال: هـذا سحر جئت به؛ لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هـذا معك، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، فاجعل بيننا وبينك موعدا؛ أي: يوما نجتمع نحن وأنت فيه، نتعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين وفي وقت معين، فعند ذلك
[ ص: 87 ] قال لهم
موسى : موعدكم يوم الزينة. وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماع جميعهم؛ ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال: وأن يحشر الناس ضحى؛ ليكون أظهر وأجلى وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، أمرهم بين واضح، أما
فرعون فلما تواعد هـو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلوم
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=79 ( فتولى ) ؛ أي: شرع من مدائن مملكته؛ حيث كان السحر كثيرا نافقا، ثم بعد ذلك اجتمع الناس فى الميقات المعلوم؛ وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه السلام معه أخوه
هـارون ، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفا، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم فى إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=41 ( فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=42قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ) (الشعراء: 41-42) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ) (طه:61) ؛
أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة
[ ص: 88 ] فتكونون قد كذبتم على الله
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( فيسحتكم بعذاب ) (طه:61) ؛
أي: يهلككم بعقوبة هـلاكا لا بقية له:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( وقد خاب من افترى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=62فتنازعوا أمرهم بينهم ) (طه:62) .
قيل: إنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هـذا بكلام ساحر إنما هـذا كلام نبي. وقائل يقول له: بل هـو ساحر. ثم تناجوا فيما بينهم، ثم قالوا: تعلمون أن هـذا الرجل وأخاه -يعنون
موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان فى هـذا اليوم أن يغلباكم وقومـكم، ويسـتوليا على الناس، وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63 ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) (طه:63) ؛
أي: يستبدا بهذه الطريقة، وهي السحر، ثم قال السحرة:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65 ( إما أن تلقي ) ؛ أي: أنت أولا
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65 ( وإما أن نكون أول من ألقى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66قال بل ألقوا ) ؛ أي أنتم أولا لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، فلما ألقى كل منهم سحره، خاف
موسى على الناس من أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه فى الساعة الراهنة أن
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69 ( وألق ما في يمينك ) ؛ يعني: عصاك، فإذا هـي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنينا عظيما هـائلا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت
[ ص: 89 ] تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته، والسحرة والناس ينظرون ذلك عيانا، جهرة، نهارا ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر؛
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69 ( إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) (طه:69) .
فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هـذا الذي فعله
موسي ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه،
ولا يقدر على هـذا إلا الذي يقول للشيء:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=117 ( كن فيكون ) (البقرة:117) ،
فعند ذلك وقعوا سـجدا لله، وقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=121 ( آمنا برب العالميـن nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=122رب موسـى وهارون ) (الأعراف:121-122) ، " ولهذا قال
ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة "
[3] .
ففي هـذه القصة يعتبر تخطيط الرسالة الإعلامية وبناؤها هـو العامل الأساس لنجاح العملية الإقناعية، التي استهدفت بناء اتجاهات وأنماط سلوكية جديدة في مجتمع كان يؤمن بالسحر وأفعال السحرة، وكان مدخل ذلك البناء الوجداني، بجانب البناء المعرفي، باعتبارهما العناصر
[ ص: 90 ] الأسـاس لبناء الاتجاهات والميل السـلوكي وفقا للاسـتراتيجية الثقافية والاجتماعية.
وفي قصة
سيدنا عيسى عليه السلام ، يقول الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:49) .
يقول
ابن كثير : كان سيدنا عيسى عليه السلام يفعل بصور الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله عز وجل ، عيانا بيانا، فكانت هـذه معجزة تدل على أنه مرسل من عند الله.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وأبرئ الأكمه ) (آل عمران:49) ، قيل: إنه الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا، وقيل بالعكس، وقيل: الأعشى. وقيل: الأعمش. وقيل: هـو الذي يولد أعمى، وهو أشبه؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( والأبرص ) (آل عمران:49) معروف.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وأحيي الموتى ) (آل عمران:49) ،
وهذه معجزة تتجانس والزمن الذي بعث فيه
سيدنا عيسى عليه السلام ؛ زمن الطب وأصحاب علم الطبيعة.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) (آل عمران:49) ؛
[ ص: 91 ] أي: أخبركم بما أكل أحدكم الآن وما هـو مدخر في بيته. وكل هـذه آيات لكم تدل على صدق ما جئتكم به
[4] . فالبعد الثقافى والاجتماعى في رسالة
سيدنا عيسى عليه السلام يهدف إلى تعديل صياغة سلوك اجتماعى متفق عليه من قبل الجماعة، وتحديد متطلبات ثقافية وقواعد سلوكية من خلال أدوار محددة، وكانت المعجزات الطبية التي جاء بها من عند الله تعالى مسرحا لذلك.
أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء، فكانت معجزته كتابا من عند الله عز وجل ، تحدى به الله سبحانه وتعالى الجن والإنس على أن يأتوا بمثله، وأشار الحق عز وجل إلى أنهم لن يستطيعوا ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛
قـال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88 ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هـذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) (الإسراء:88) .
ينبه الله سبحانه وتعالى في هـذه الآية على شرف هـذا القرآن العظيم، فأخبر أنه لو اجـتمعت الإنس والجن كلهم واتفقـوا على
[ ص: 92 ] أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هـذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير ولا مثيل ولا عديل له، وقد روى
ابن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن
سعيد بن جبير ، أو
عكرمة عن
ابن عباس قال: إن هـذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به، فأنزل الله هـذه الآية
[5] .
ولعل موقف
الوليد بن المغيـرة ، الذي أشرنا إليه سابقا، يأتي في السياق ذاته.
إن معجزات الأنبياء تأتي دائما متجانسة مع النمط الثقافي والاجتماعي السائد في زمن كل نبي، فإذا ما عجزت الثقافة السائدة عن المجابهة والتصدي، والحال كذلك، أيقن المجتمع ذي الفطرة السليمة والبصيرة النافذة أن ما جاء به النبي هـو من عند الله تعالى، فتقوم الحجة ويقع الدليل والبرهان، فتسود ثقافة جديدة ومجتمع
[ ص: 93 ] جديد، ممتثل لأوامر الله تعالى، مجتنبا لنواهيه، ولا يتخلف عن الركب إلا مكابر أو صاحب غرض وهوى.
ويقع ضمن نطاق الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية في القرآن الكريم التدرج في التشريع، ومثال لذلك تدرج الأحكام في تحريم الخمر،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219 ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) (البقرة:219) ؛
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43 ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) (النساء: 43) ؛
وأخيرا قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90 ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) (المائدة:90-91) .
" أورد
ابن كثير في تفسيره عن
أنس بن مالك : بينما أنا أدير الكأس على
أبـي طلحـة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء ، حتى مالت رءوسهم من خليط بسر
[ ص: 94 ] وتمر، فسمعت مناديا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من الطيب. ثم خرجنا على المسجد "
[6] . فمضمون الآية الأخيـرة تحول إلى سـلوك جماعي، كما في رواية الحديث. ومن ذلك ما " أورده
ابن كثير أيضا عن
زيد بن ثابت عن
أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت
أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفضيح والبسر، فإذا مناد ينادي، قال: اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فجرت في سكك المدينة. "
من كل ما تقدم، فإن القرآن العظـيم يمـدنا بمسـلمات أساسـية لفرضيات الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية، وإذا أردنا تتبع ذلك في الآيات القرآنية لما وسعنا هـذا السفر، ولكن حسبنا النماذج التي أشرنا إليها، ويمكن للقارىء أن يستنبط الآيات التي تناولت هـذه الاستراتيجية من كتاب الله العزيز بعد أن عرف مرتكزاتها وأساليب بنائها.
[ ص: 95 ]
القرآن والاستراتيجية الثقافية الاجتماعية للإقناع
إذا كان التخوف أو التهديـد يثيـر في الفرد الحاجة إلى الأمن أو تجنب الحرمان من تلبية حاجيات أخرى؛ بوصفها دوافع للفرد تدفعه للاستجابة السلوكية التي تلبي حاجاته، فإن المدخل الثاني للإقناع يركز على العلاقات الاجتماعية، ودافعية الانتماء، وحرص الفرد على تقدير الجميع له، بحيث تجعله يتجنب السـلوك الذي لا ترضى عنه الجماعة، ويستجيب إلى السلوك الذي يتوافق مع المعايير الاجتماعية، التي تتمثل في القيم والتقاليد والأعراف التي تحدد معايير السلوك لدى الجماعة والمجتمع وخصائصه الثقافية.
وهذه المعايير والقواعد والضوابط تمثل بالنسبة للقائم بالاتصال -في عملية الإقـناع- مؤشرات لاتجاهات التأييد أو المعارضة، القبول أو الرفض، أو بصفة عامة قبول التوصـيات أو رفضها في الرسـالة الإقناعية، وهذا مما يؤكد أهمية احتواء الرسالة على الرموز التي تتفق مع هـذه القواعد والمعايير والضوابط، بحيث ترسم التوقعات بأنماط السلوك، كما ترسم للملتقي حدود الاتفاق أو الاختلاف مع هـذه
[ ص: 84 ] القواعد والمعايير والضوابط، وبالتالي التوقعات بالثواب والعقاب الذي يتمثل في القبول الاجتماعي من الجماعة أو المجتمع
[1] .
إن ما تتطلبه استراتيجية ثقافية اجتماعية فعالة هـو أن تحدد رسائلُ الإقناع للفرد قواعدَ السلوك الاجتماعي أو المتطلبات الثقافية التي تحكم أنشطة العمل، التي يحاول رجل الإعلام أن يُحدّثها. وإذا كانت التحديات موجودة فعلًا، تصبح المهمة هـي عملية إعادة تحديد هـذه المتطلبات.
وفي القرآن الكريم اقترنت هـذه الاستراتيجية بمعجزات الرسل عليهم السلام؛ حيث كانت هـذه المعجزات تتفق مع القيم والعادات والأعراف التي كانت سائدة في مجتمع كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان
موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار، وحيرت كل السحرة، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار.
[ ص: 85 ]
وأما
عيسى عليه السلام فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبَعْث من هـو في قبره رهين إلى يوم التناد.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان البلغاء والفصحاء وتجاريد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل ، لو اجتمعت الإنـس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعَشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، وإن كان بعضهم لبعضٍ ظهيـرًا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدًا
[2] .
ففي قصة
سيدنا موسى عليه السلام ،
يقول الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=56 ( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=57قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=58فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=59قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=60فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ [ ص: 86 ] كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=62فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63قَالُوا إِنْ هـَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=64فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=67فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=68قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=70فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هـَارُونَ وَمُوسَى ) (طه:56-70) .
يقول الله تعالى مخبرًا عن
فرعون : إنه قال
لموسي حين أراه الآية الكبرى؛ وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانًا عظيمًا، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، قال: هـذا سحر جئت به؛ لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هـذا معك، فإن عندنا سحرًا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، فاجعل بيننا وبينك موعدًا؛ أي: يومًا نجتمع نحن وأنت فيه، نتعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين وفي وقت معين، فعند ذلك
[ ص: 87 ] قال لهم
موسى : موعدكم يوم الزينة. وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماع جميعهم؛ ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال: وأن يُحشر الناس ضحى؛ ليكون أظهر وأجلى وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، أمرهم بيِّن واضح، أما
فرعون فلما تواعد هـو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلوم
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=79 ( فَتَوَلَّى ) ؛ أي: شرع من مدائن مملكته؛ حيث كان السحر كثيرًا نافقًا، ثم بعد ذلك اجتمع الناس فى الميقات المعلوم؛ وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه السلام معه أخوه
هـارون ، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفًا، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم فى إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=41 ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=42قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (الشعراء: 41-42) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) (طه:61) ؛
أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة
[ ص: 88 ] فتكونون قد كذبتم على الله
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) (طه:61) ؛
أي: يهلككم بعقوبة هـلاكًا لا بقية له:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61 ( وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=62فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) (طه:62) .
قيل: إنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هـذا بكلام ساحر إنما هـذا كلام نبي. وقائل يقول له: بل هـو ساحر. ثم تناجوا فيما بينهم، ثم قالوا: تعلمون أن هـذا الرجل وأخاه -يعنون
موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان فى هـذا اليوم أن يغلباكم وقومـكم، ويسـتوليا على الناس، وتَتْبَعْهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63 ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (طه:63) ؛
أي: يستبدا بهذه الطريقة، وهي السحر، ثم قال السحرة:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65 ( إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ) ؛ أي: أنت أولًا
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=65 ( وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66قَالَ بَلْ أَلْقُوا ) ؛ أي أنتم أولًا لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، فلما ألقى كل منهم سحره، خاف
موسى على الناس من أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه فى الساعة الراهنة أن
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69 ( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ) ؛ يعني: عصاك، فإذا هـي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنّينًا عظيمًا هـائلًا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجَعَلت
[ ص: 89 ] تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تُبْق منها شيئًا إلا تلقفته، والسحرة والناس ينظرون ذلك عيانًا، جهرة، نهارًا ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر؛
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69 ( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) (طه:69) .
فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هـذا الذي فعله
موسي ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه،
ولا يقدر على هـذا إلا الذي يقول للشيء:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=117 ( كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة:117) ،
فعند ذلك وقعوا سُـجّدًا لله، وقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=121 ( آمَنَّا بِرَبِّ العالميـن nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=122رَبِّ موسـى وَهَارُونَ ) (الأعراف:121-122) ، " ولهذا قال
ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة "
[3] .
ففي هـذه القصة يعتبر تخطيط الرسالة الإعلامية وبناؤها هـو العامل الأساس لنجاح العملية الإقناعية، التي استهدفت بناء اتجاهات وأنماط سلوكية جديدة في مجتمع كان يؤمن بالسحر وأفعال السحرة، وكان مدخل ذلك البناء الوجداني، بجانب البناء المعرفي، باعتبارهما العناصر
[ ص: 90 ] الأسـاس لبناء الاتجاهات والميل السـلوكي وفقًا للاسـتراتيجية الثقافية والاجتماعية.
وفي قصة
سيدنا عيسى عليه السلام ، يقول الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران:49) .
يقول
ابن كثير : كان سيدنا عيسى عليه السلام يفعل بصور الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله عز وجل ، عيانًا بيانًا، فكانت هـذه معجزة تدل على أنه مرسل من عند الله.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ ) (آل عمران:49) ، قيل: إنه الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلًا، وقيل بالعكس، وقيل: الأعشى. وقيل: الأعمش. وقيل: هـو الذي يولد أعمى، وهو أشبه؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وَالأَبْرَصَ ) (آل عمران:49) معروف.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وَأُحْيِي الْمَوْتَى ) (آل عمران:49) ،
وهذه معجزة تتجانس والزمن الذي بُعِث فيه
سيدنا عيسى عليه السلام ؛ زمن الطب وأصحاب علم الطبيعة.
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49 ( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) (آل عمران:49) ؛
[ ص: 91 ] أي: أخبركم بما أكل أحدكم الآن وما هـو مدخر في بيته. وكل هـذه آيات لكم تدل على صدق ما جئتكم به
[4] . فالبعد الثقافى والاجتماعى في رسالة
سيدنا عيسى عليه السلام يهدف إلى تعديل صياغة سلوك اجتماعى متفق عليه من قبل الجماعة، وتحديد متطلبات ثقافية وقواعد سلوكية من خلال أدوار محددة، وكانت المعجزات الطبية التي جاء بها من عند الله تعالى مسرحًا لذلك.
أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بُعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء، فكانت معجزته كتابًا من عند الله عز وجل ، تحدى به الله سبحانه وتعالى الجن والإنس على أن يأتوا بمثله، وأشار الحق عز وجل إلى أنهم لن يستطيعوا ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛
قـال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88 ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هـَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (الإسراء:88) .
ينبه الله سبحانه وتعالى في هـذه الآية على شرف هـذا القرآن العظيم، فأخبر أنه لو اجـتمعت الإنس والجن كلهم واتفقـوا على
[ ص: 92 ] أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هـذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير ولا مثيل ولا عديل له، وقد روى
ابن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن
سعيد بن جبير ، أو
عكرمة عن
ابن عباس قال: إن هـذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به، فأنزل الله هـذه الآية
[5] .
ولعل موقف
الوليد بن المغيـرة ، الذي أشرنا إليه سابقًا، يأتي في السياق ذاته.
إن معجزات الأنبياء تأتي دائمًا متجانسة مع النمط الثقافي والاجتماعي السائد في زمن كل نبي، فإذا ما عجزت الثقافة السائدة عن المجابهة والتصدي، والحال كذلك، أيقن المجتمع ذي الفطرة السليمة والبصيرة النافذة أن ما جاء به النبي هـو من عند الله تعالى، فتقوم الحجة ويقع الدليل والبرهان، فتسود ثقافة جديدة ومجتمع
[ ص: 93 ] جديد، ممتثل لأوامر الله تعالى، مجتنبًا لنواهيه، ولا يتخلف عن الركب إلا مكابر أو صاحب غرض وهوى.
ويقع ضمن نطاق الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية في القرآن الكريم التدرج في التشريع، ومثال لذلك تدرج الأحكام في تحريم الخمر،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219 ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (البقرة:219) ؛
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) (النساء: 43) ؛
وأخيرًا قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (المائدة:90-91) .
" أورد
ابن كثير في تفسيره عن
أنس بن مالك : بينما أنا أدير الكأس على
أبـي طلحـة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء ، حتى مالت رءوسهم من خليط بسر
[ ص: 94 ] وتمر، فسمعت مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من الطيب. ثم خرجنا على المسجد "
[6] . فمضمون الآية الأخيـرة تحول إلى سـلوك جماعي، كما في رواية الحديث. ومن ذلك ما " أورده
ابن كثير أيضًا عن
زيد بن ثابت عن
أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت
أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفضيح والبسر، فإذا منادٍ ينادي، قال: اخرج فانظر. فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فجرت في سكك المدينة. "
من كل ما تقدم، فإن القرآن العظـيم يمـدنا بمسـلمات أساسـية لفرضيات الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية، وإذا أردنا تتبع ذلك في الآيات القرآنية لما وسعنا هـذا السِّفْر، ولكن حسبنا النماذج التي أشرنا إليها، ويمكن للقارىء أن يستنبط الآيات التي تناولت هـذه الاستراتيجية من كتاب الله العزيز بعد أن عرف مرتكزاتها وأساليب بنائها.
[ ص: 95 ]