التقوى وثمراتها في الدنيا والآخرة

07/10/2025| إسلام ويب

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أكمَل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أُمتنا وله الحمد خيرَ أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله للعالمين رحمةً، وخصَّه بجوامع الكلم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا..
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى القائل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(البقرة:281)..
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم..

 عباد الله "التقوى" أساسٌ وضمانٌ للحياةٍ السعيدة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة، وقد أمرنا الله بها في آيات كثيرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }(الأحزاب:70)..
والتقوى نعمة عظيمة من الله على عباده، تتضمن طاعته ومراقبته، سراً وجهراً، ولشرف التقوى وفضلها شرَّف الله أهلها وآتاهم ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة..
وحقيقة التقوى: "فعل المأمورات واجتناب المنهيات"، وقد ورد عن سلفنا الصالح العديد من العبارات في بيان معناها، وكلها تدور حول معنى واحد، وهو أن يقوم العبد بأداء ما افترض الله تعالى عليه، وترك ما حرم عليه..
وقد فسرها عليٌّ رضي الله عنه بقوله: "التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل"..
وقيل: "التقوى هي: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك"..

والتقوى عباد الله: وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}(النساء:131)..
فلو كانت هناك خصلة أنفع للعباد في العاجل والآجل لأوصاهم الله بها، فلما أوصى الله عز وجل الأولين والآخرين بتقواه، كانت التقوى هي الغاية العظمى والوصية الكبرى .

والتقوى كذلك وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنا..
لما وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، قالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فماذا قال صلى الله عليه وسلم لهم؟.. قال: (أوصيكم بتقوى اللهِ)..
وقال صلى الله عليه وسلم موصيا وصيته الجامعة لأبي ذر رضي الله عنه ولكل مسلم حتى يرث الله الأرض ومَن عليها: (اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ)..

والتقوى -أيها الأحبة- أجمل لباس وخير زينة يتزين بها العباد، وقد منَّ الله على بني آدم بإنزال اللباس الظاهر الذي يوارون به السوءات والعورات، ويتجملون به، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}(الأعراف:26)..
فالله عز وجل تفَضَّل على عباده بهذه الثياب التي يوارون بها عوراتهم، ومع تفضل الله على عباده بهذا اللباس الظاهر، الذي يستر العورات والسوءات، تفضل عليهم بأحسن لباس وخير زينة، وهو لباس التقوى، فقال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}(الأعراف:26)..


إذا المرء لم يلبس ثياباً مِنَ التُقى   تقلب عرياناً وإنْ كان كاسياً
وخير ثياب المرء طاعة ربه      ولا خير فيمن كان لله عاصياً

وكما أن التقوى خير لباس وزينة، فإنها كذلك خير الزاد، وقد أمرنا الله بالتزود لسفر الدنيا بقوله: {وَتَزَوَّدُوا}(البقرة:197)، ثم أخبر سبحانه أن خير الزاد هو التقوى، فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(البقرة:197)..
قال العلماء إن هذه الآية الكريمة نزلت في قوم كانوا يذهبون إلى الحج ولا يتزودون للسفر، ويقولون: نحن أضياف الله، أفلا يطعمنا؟ ثم يصيرون عبئاً على الناس، فأمرهم الله بالتزود لسفر الدنيا، ثم أمرهم بالتزود لسفر الدنيا والآخرة وهو زاد التقوى، فقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}..

التقوى -عباد الله- شجرة طيبة مباركة، لها ثمرات كثيرة وعظيمة في الدنيا والآخرة، لا نستطيع حصرها، ولكننا نشير إلى بعضها:

من ثمرات التقوى في الدنيا: البشرى الطيبة، ومن عاجل البشرى للعبد التقي المخلص لله، حب الناس ـ من أهل الخير والصلاح ـ وثناؤهم عليه، وإن كان هذا غير مقصود له ولا ينظر إليه، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}(يونس: 64). وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ ويحبه النَّاسُ عليه؟ قالَ: تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ)..

ومنها أن الله يجعل للعبد بها من كل ضيق فرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وييسر له أمور حياته، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:2-3)، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(الطلاق:4)..

ومن ثمرات التقوى في الدنيا: التأمين الرباني الذي جعله الله لعباده المتقين، وتأمين الإنسان لنفسه في حياته لا يكون بالحصول على المال ولو من حرام، ليؤمن الإنسان حياته وحياة أولاده، كلا، فتأمين الحياة لنفسك، ولأولادك الذين تخاف عليهم من بعدك، يكون بأن تتحقق وتتحلى بالتقوى في مأكلك ومشربك وقولك وفعلك، قال الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}(النساء:9)..
فمن أراد أن يحفظ الله له أولاده وذريته من بعده، فعليه بتقوى الله..
كان سعيد بن المسيب يقول لابنه: "لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}(الكهف:82)، فصلاح الآباء وتقواهم يكون بفضل الله سبباً في حفظ الأبناء.. وكما قيل: "صلاح الآباء سبب لحفظ الأبناء"..

والتقوى كذلك سبب لبركات السماء والأرض، وانظروا عباد الله! كيف يعيش الناس حياة الضنك والضيق، والفقر والشقاء في كثير من البلدان والأماكن، ومن أسباب ذلك عدم تقوى الله، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}(الأعراف:96)..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أمرَ بالتقوى، ووعد المتقين بالفرج والنجاة، ورفعهم في الدنيا والآخرة درجات، والصلاة والسلام على سيد المتقين، وإمام المهتدين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد أيها الإخوة الكرام:

شجرة التقوى شجرة طيبة عظيمة مباركة، تثمر للعبد في الدنيا وتثمر له في الآخرة، وما ذكرناه وأشرنا إليه هو بعض ثمرات التقوى في الدنيا.. وأما ثمرات التقوى في الآخرة فكثيرة جداً، نشير كذلك إلى بعضها..

أولها الرفعة والعلو يوم القيامة، فالمتقون في أعلى عليين، والمتقون هم سادات المؤمنين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(البقرة:212).. ففي الآخرة، ترتفع درجات المتقين، ويكونون في أعلى المنازل، فوق مَن سواهم، جزاء تقواهم لله عز وجل في الدنيا..
والمتقون هم ورثة الجنة في الآخرة، كما قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}(مريم:63)، فالجنة لا تُشترى بالمال، ولا تُنال بالحسب والنسب، وإنما تُورث لمن كان لله تقيًا..

ومن ثمرات التقوى أنها تجمع بين أهلها في الجنة، فالمحبة والصداقة التي بُنيت في الدنيا على التقوى، تثمر في الآخرة محبة خالدة، وتجمع بين أهلها في الجنة على سرر متقابلين، وأما الصداقة والمحبة التي كانت قائمة على حب الدنيا أو معصية الله، فإنها تتحول وتنقلب إلى عداوة وشقاق، قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(الزخرف:67)..

ومن عظيم ثمرات التقوى في الآخرة الدرجات العالية في الجنة، والقرب من الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}(القمر:55:54)..
فيا لها من كرامة، أن يكون العبد في مقعد صدق عند ملك الملوك سبحانه..

وختاما أيها الأحبة، حقيقة التقوى في العمل بطاعة الله، أمراً ونهياً، فيُفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويُتْرَك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً مِن وعيده، كما قال طلق بن حبيب: "التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله"..
التقوى درجة عالية، ومنزلة عظيمة، وشجرتها من أطيب شجر الإيمان، وثمارها دانية قريبة متنوعة.

اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا.. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين..
 

www.islamweb.net